ما زالت الأمة في ميدان التحرير، تغزل غدها الافضل من ضياء الفجر الذي اغتيلت شمسه قبيل الشروق..
ما زالت اصداء هدير الجماهير تتردد في الميدان الذي قطعت اوصاله حتى لا تتسع للهتاف: الله اكبر!
ما زال حطام الآمل والتمنيات المغسول بدماء الشهداء يغطي الارض، بينما تهدر جنازير الدبابات وهي تتقدم فوق اشلاء الغد الافضل، فاتحة الطريق امام الأمس ليسود مرة أخر بقبعات جديدة، والاسماء تلمع على الصدور فلا يعرف الجمهور أن يقرأها.
ما زال حطام الاغاني طرباً وعود الشيخ امام يترنم باسم “بهية ام الطرحة والجلابية”، ومن البعيد تتهاطل اصداء “الله اكبر”، وعلى الارض الرايات المكسورة التي ارتفعت، امس، باسم الغد الافضل.
الجيش هو الامل،
لكنه الآن هو الآمر الناهي،
كلما افترضت انه جيشك ذهب إلى صاحب الامر، وليست عندك كلمة السر، ولا هو يعرف خطوته التالية، فلا تأمل أن يستمع إلى مطالبك. انه لا يسمع الا الامر، ولا يرى ولا يأمره اصحاب الجلابيب. انه عبد النجوم وهو مع الكتف الاكثر لمعاناً بنجومه.
من اين جاءت تلك الملايين، وأين اختفت، تاركة خلفها الفراغ ولا صدى؟
وأين ذهبت والشمس ولما تشرق والميدان يتيم، والناس خارجه آحاد تطاردهم الخيبة ويمسك بهم الخوف من الدم عن التحدي إلى حد التصادم.
ليست هذه الشرطة بضباطها ذوي الكروش وانفارها المساكين من ابناء هذا الميدان الذي لم يكن يمكنهم عبوره الا وعيونهم مفتوحة خوف التصادم بالآخرين مئات الآخرين، آلاف العابرين.
اجتمعت في هذا الميدان الامة جميعاً: فلسطين المنسية وسوريا المشاغبة والعراق الذي اغتاله نظامه وكل الخليج الذي نسي هويته، وليبيا التي اضاع “العقيد” الطريق اليها فغادرت إلى الصحراء.
أما تونس فقد اعجزتها الوحدة: ماجت شوارعها بالبشر فهرب دكتاتورها وزوجته التي لا تُتقن غير فن الاغواء وتكديس الذهب… وعادت إلى الجماهير البلا رأس قيادات الماضي والمغربين من ذوي اللحى والرغبة في الانتقام من الغد.
على أن نداء تونس لم يذهب مع الريح.. فعبر الصحراء إلى قاهرة المعز وجال في ميادينها، ودخل بيوت الفقراء وأكواخ الذين لا بيوت لهم، فانتبهوا إلى أن الشمس تشرق مجدداً.
*****
الجيش جيشك يا فتى، لا تخفه، انه سحميك من “الداخلية” وعسكرها.
كل العواصم في انتظارك يا فتى، فلا تخف.
ها هي الارياف تزحف اليك. الملايين يضيق بها الميدان فتوسعه بطموحها إلى تحقيق ذاتها وارادتها بأن تتنفس وأن تعيش الحياة التي تستحق بعرق جبينها.
لا ضرورة لرفع الصورة، فالميدان يعرف “صاحبه” الذي منح به قلباً للقاهرة.. وكلما ارتفعت الاصوات بشعار “حرية، عيش، كرامة” تجسدت ملامح “البطل” الذي غيبه الصلح المهين مع العدو الذي سيبقى عدواً إلى يوم الدين. والدين فلسطين، ومن يخون فلسطين يغتال مصر.
.. لكن هذا “الجيش” الذي ينازلنا ليس جيشه، وهؤلاء الضباط المنقوشة اسماؤهم على صدورهم بغير لغتنا ليسوا ابناءنا. انهم لمن دربهم على العداء للشعب. فالعدو ليس في الخارج بل هو في الداخل، وداخل الداخل. في الصدور والعقول والقلوب والذاكرة و”جرح قديم في جبينه”.
جيشنا هو جيش الفتح. هو الامة، كما في صد العدوان 1956، وكما في رفض الهزيمة في 5 حزيران (يونيو) 1967، وكما في الاندفاع نحو النصر في اكتوبر(رمضان) 1973، قبل أن يطعنه قائده من الخلف.
ولسوف نستعيد جيشنا والميدان في الطريق إلى النصر..
و”بهية” لا تخاف الزمن، لان الشمس سوف تشرق من جديد، وتستعيد ذاتها وطريقها وميدانها وغدها “فالزمن شاب وهي شابة، هو رايح وهيَّ جايه”.