ماذا نسمي هذا العام؟
لا اسم له. هو عام ليس كالأعوام. لا يشبهه حَوْلٌ ولا تقاربه سَنَةٌ. أن تعرفه، يعني أن تقرأه كجحيم. أن تسميه، يعني أن توزع الجثث في الشوارع والمدن والعواصم وأينما كان… قد تسمّيه عام الإرهاب. هو أكثر من ذلك. الإرهاب سابق عليه. بدأ منذ ما بعد اجتياح السوفيات لأفغانستان، بل قبل ذلك بعقود، منذ اجتياح الصهاينة لفلسطين وتوطين أهلها في المنافي، بل قبل ذلك بنصف قرن، منذ احتلال دمشق وتدمير وحدتها. غورو كان سباقاً. قتل أمة في دولة. بل قد أطاح البريطانيون العراق مراراً… هذه الأمة مصلوبة منذ قرن، وقيامتها ليست على جدول الانبعاث.
ماذا نسمّي هذه السنة؟
كل الأسماء القبيحة لا تكفي. كل وصف قاصر. عام يختصر ويكثِّف مشهد قرن من العنف العاري، والديموقراطيات الزائفة، والحضارة الكاذبة، والعالمية التي يقودها قراصنة السلاح والعقائد والأموال. ليس عابراً أن يسقط الاتحاد السوفياتي وينهار جدار برلين وتصير الصين صديقاً لدوداً ودائناً سخياً للامبريالية. لا. ليست أميركا نمراً من ورق، وليس الغرب حديقة لرعاية حقوق الإنسان. قرن من الجنون والعنف والقتل. حربان عالميتان في أقصر من نصف قرن. عشرات الملايين اختفوا. حذفتهم العسكريتاريا. إرهاب فاخر ذاك الذي يرتكبه الغرب. إرهاب فاجر هذا الذي تنتجه عبقرية الشرق. متعب هذا الكلام، فلمَ كل هذه الاستعادة؟
ماذا نسمي هذا العالم؟
هو وطن للإرهاب بصوره المختلفة وارتكاباته الفائقة وجنونه الفظ. ولا مرة كانت البشرية بهذه الأناقة العلمية والحضارية، وهذه الهمجية الممسوكة والقادرة على احتلال المشهد، كما هو في هذا العام. نظرية الحروب بالوكالة انتهت. تطبيق الشعار الغربي: السلام بيننا والحروب حصة الآخرين، سقط كذلك. ها هي مدن العالم خائفة. ها هي العواصم ترتجف. ها هي الحضارة على مرمى قذيفة بشرية أو عمليات قتل عمياء، تصيب أبرياء، فيهتز سقف الدول وترتجف أرض، كانت مطمئنة إلى نومها السعيد وأحلامها الوردية… الغرب يعيش كوابيسه. العنف في كل مكان، ويأتي من كل مكان. يبدو أن الحرب على الإرهاب كذبة دولية. الواقع يتفجر تحت الحرب الكونية التي يقودها الإرهاب، ضد العالم… هذا جديد غير مسبوق. إنه من علامات هذ العام.
ماذا نسمي هذه البشرية؟
لقد بلغت مرتبة العجز. ديموقراطيتها العريقة، تنجب انتخاباتها ذئاباً يمينية. اليمين المتطرف يغزو السلطة، يمتحن العقول ويخذل النخب. يمين يتقدم بعنصريته وتمييزه على كل ما أنجبته الإنسانية من حلم وعدل وحرية وتقدم وحقوق مقدسة. لم تُحْرَس منجزات البشرية سياسياً. تركت كفتاتٍ لمجتمع مدني لا يقصِّر في التبني وفي الدفاع ولكنه لا يبلغ مرتبة الإنجاز. حصون المجتمع المدني رثة. هكذا، الإنسانية قاصرة في الدفاع عن إنجازاتها. الاستعمار «التنويري» دمّر بلاداً وقارات. الديموقراطية حق له والديكتاتورية والاستبداد والعنف واجب على الآخرين. استباحوا شعوباً وحضارات. عاثوا في الجغرافيا تقطيعاً وتقسيماً. أسسوا لحروب بلا نهاية. حروب الإخوة الأعداء في الدين والعشيرة والقبيلة، تشبه «داحس والغبراء»… «ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأمِ». ها قد ارتد العنف إلى غرب أبيض. يندفع إلى يمين اليمين، تماماً كما حصل بين الحربين. الثأرية مستحكمة. خطاب الغلو والتشفي والاستغباء مستفحل. ان حروباً جديدة قادمة. ولم يعد الوقت كافياً ليستعيد الغرب أنواره التي أطفأها استبداد المتحكمين بالمال ورغيف العيش والسلع المصانة بقوانين حمائية وعقابية. انتهت الحداثة بفعل ارتكابها لتقدم مبني على عنف وتمييز. إنها لبشرية معلقة فوق هاوية.
ماذا نسمي هذا العصر؟
المسألة ليست لغوية. القواميس مكتظة بالمفردات. ولا واحدة على قياس هذا العصر. حتى أسماء العلم قاصرة عن الملاءمة. لا هولاكو ولا جنكيزخان ولا تيمورلنك ولا قلاع ألْمُوت. يستثنى ستالين وهتلر، من فرط الأشلاء التي خلَّفاها. العنف الراهن مسكون بالتاريخ حيناً، وبالدين حيناً، وبالله والمال دائماً. التاريخ كمين من الأحداث. ليس في تاريخ العرب، المتداول راهناً، ما يصلح لبناء بيت أو مدينة أو كيان أو دولة. التاريخ السائد هو تاريخ انتقام وثأر. وتاريخ العرب مسكون بالظلم، فلسطين شاهداً، مسكون بالاجتياح والإذلال، احتلال العراق شاهداً، مسكون بالأخوَّة القايينية، اليمن شاهداً وشهيداً، مسكون بالاستبداد المباح، كل البلاد العربية شاهد على ذلك، ملكية وأميرية وجمهورية… ليس في تاريخنا ما يمسح دمعة أو ينجب وردة.
هل عصر انتقام التاريخ من ذاته، أم انتقام الدين من كفّاره؟ الأمة على قارعة التكفير. التحزب الديني خراب للروح وتدمير للبلاد. لدينا منه الكثير في اليمن وليبيا والعراق وسوريا ومصر و… و.. هلم جراً يا عرب البائدة، الباقين على أهبة الغياب.
و «الله» عندنا لا يشبه الله بجماله وحنانه ومحبته. إنه إله عصبي المزاج، يأتي أموراً على يد تابعيه، لا ترقى إليه عبقرية الأبالسة. أما المال، فدين كوني، توحّد في عملة واحدة، تقبض على أنفاس شعوب وأمم ودول. إنه لعصر مقتول كل يوم، بيد التاريخ والدين و «الله» والمال.
متى النهاية؟
اعتداءات 11 أيلول على برجي نيويورك، دشَّنت حرباً عالمية على الإرهاب. كان ذلك طبيعياً جداً. منطقياً جداً. حتمياً جداً. ولكن لماذا الحرب دائماً بالعسكر وليس بالأفكار؟ لماذا أفغانستان تحديداً؟ ما علاقة العراق حيث تم اجتياحه وتدميره؟ ولماذا لبنان، حيث اعتبرت مقاومته المقدسة ضد الاحتلال، إرهاباً؟ ولماذا تأكدت حماية ممالك ودول تربّي على الإرهاب، وتدعم التطرف، وتوظف عقيدة الإيمان في ابتداع التكفير وتعميم التعصب وتأبيد العنف؟
الحرب على الإرهاب، أحيت الإرهاب وعممته. أولى ضحاياه الجزائر التي ابتليت بالأفغان العرب والإسلام المغذَّى من وهّابية فائقة الثروة. والحرب الأميركية الغربية على الإرهاب، غذت الإرهاب في العراق وسوريا وليبيا. الأمة تعيد إنتاج موتها، موتاً بعد موت، بلا انبعاث.. الحرب على الإرهاب بعد اجتياحات «داعش»، انتقائية. لكل محور إرهاب يخصه وإرهاب يحاربه… والكارثة، أن إرهاباً مفرطاً يتم إنتاجه فيتفاجأ العالم ويرتعب.
ولن يصيبكم إلا…
هذا ما كتبه العالم.. ولن يصاب إلا به.
ماذا نسمي هذا العام؟
لا مجاز أبشع من الإرهاب على حقيقته. إنه هنا وهناك وهنالك وفي كل مكان. ثمة مجازر على الأبواب.
في طرف قلمي كلام بذيء…