ربنا غضبان علينا. سمعتها خلال الأسابيع العشرة الماضية مرات عديدة على ألسنة صديقة والأخرى الشامتة دائما. كانت على كل حال مناسبة ذكرتني وأصدقاء لي من أيام التوجيهية بأستاذ كان يدرس لنا كثيرا من الفلسفة وبعضا من التاريخ وشذرات من الفكر، أي من خارج المنهج، هي التي وضعت الأساس لما أصبحت وبعض زملائي أو أمسينا عليه.
تذكرت مثلا حكاية آلهة الإغريق وما فعلته بالمؤمنين بها من الأثينيين عندما غضبت عليهم. أما لماذا غضبت عليهم فقصة تستحق أن تروى من جديد. يُحكي، أو كان يحكي في الزمن القديم طبعا، أن أهل أثينا حققوا إنجازات هائلة. كونوا ثروات طائلة، انتصروا على أعدائهم في كل الممالك والبقاع. صنعوا إمبراطورية عظيمة تمددت غربا وجنوبا فغطت معظم أراضي البحر الأبيض المتوسط وشرقا حتى لامست أواسط أفغانستان وشمال الهند. برعوا في جميع فنون ركوب البحر وشن الحرب وأبدعوا في صياغة أفكار للحكم والسياسة وتوظيف طاقات البشر وعرفوا قدر المرأة فبجّلوها. احترموا الآلهة التي بعقولهم ابتكروها وبأصابعهم جسدوها تماثيل تكاد تنطق أو تطير بجناحين أو تذوب حبا وحنانا أو تهز الكون بصرخة عنفوان أو تتصادم وتتقاتل فتهتز الأرض من تحت أقدامها، وتماثيل راحت سمعة فتنتها، أو واحد منها على الأقل وهو تمثال أفروديت، تجوب الكون ضاربة المثل وعارضة النموذج وشاهرة للأبد وفي كل ركن من العالم معايير الجمال وقياساته وهيبته وأصول الحب ومكانته وقدسيته.
تقول الأسطورة، من بين أساطير عديدة لم تسطرها يد إغريقية أصيلة أو تعددت، أن كثيرا من الآلهة غضبوا وراحوا إلى كبيرهم، زيوس، يدعونه إلى التدخل. “كيف نهيمن وتكون كلمتنا مسموعة عند الناس إذا تركناهم يتفوقون علينا. هذا الشعب صنع العجب. بلغ من القوة شأنا فراح يفتح ويغزو ويسيطر. أبدع في صنع الكلام كما سبق وأبدع في صنع السلاح. قرضوا الشعر وكتبوا للمسرح. كللوا بالفخار رجالا حاربوا وابتكروا وتباهوا بهم أمام الأمم. أيها الإله الأعظم هؤلاء البشر نراهم في كوابيسنا يزحفون صاعدين في اتجاهنا وربما كانوا طامعين في عرشك المقدس. تعودنا على يديك الشريفتين ألا نثق ببني آدم وحوا”.
أيها الإله العظيم، أكثر شعوب الجبال المحيطة بجبلنا وفي الجزر الهيلينية ينجبون عبيدا، وشعب أثينا ينجب فلاسفة وفرسانا وأرستقراطيين. اشتغل الفلاسفة بصنع عقل جديد جابوا به العالم الذي فتحه لهم فرسانهم. خلقوا طبقة من الناس تفهم وتقود وتنظم حياة السكان وقد جعلوهم مواطنين. ابتكروا نظاما للحكم ونظاما للحوار والنقاش ونظاما لمراتب المفكرين وحوارييهم. لا نبالغ ونحن ننقل إليك شكوكنا. هؤلاء البشر على وشك أن يستغنوا عنا. اجتمعنا بالأمس أيها الإله العظيم، اجتمعنا نحن الآلهة ومع كل منا مستشاروه وخبراؤه. كلنا، بدون استثناء، عبرنا عن مخاوفنا من أنه عما قريب لن يكون لدينا ما نقدمه للإنسان جديدا عليه أو فوق قدراته الذهنية والبدنية. يقول المستشارون والمساعدون إنهم لا يتلقون من بني البشر الحجم ذاته من رسائل الاستجداء وطلبات المساعدة والمساندة الذي كانوا يتلقونه مع فجر كل يوم. الناس ابتكرت لنفسها الحلول بل وأبدعت في فنون العقاب والانتقام والتعذيب، كلها، كنا حتى وقت قريب نحتكر إنتاجها وتطبيقها. هم الآن، ونقصد أهل الأرض، لا يتصلون بنا إلا لماما. لا يطلبون نصيحة أو إرشادا.
الأدهى أيها الإله القائد، وها هي أفروديت معنا في هذ الاجتماع الهام تقول إن الناس على سفح الجبل المقدس وفي الأراضي التي هيمنت فيها إرادة جيوش وحكام ومفكري أثينا وجدوا صيغا للحب تختلف عن الصيغة التي بشرناهم بها. هم لا يحبون كما أوصيناهم. خلعوا عن الحب جلاله، أو لعلهم يرون جلالا في الحب الذي يمارسون وتراه زميلتنا إلهة الحب تشويها وتخريبا. نحن جميعا نشاركها الشكوى لما شاب قدسية الحب من تشويه وتخريب ولكن أيضا لمعاني الجمال والتعاطف والحنين.
إلَهُنا العظيم. تصلنا منذ مدة تقارير من مبعوثينا في الأرض تنبئنا بأن البشر كادوا ينتهون من خطة تهدف إلى أن يتولوا بأنفسهم خلق أشباه بشر. يعلق المبعوثون بأنهم في البداية لم يكترثوا باعتبار أن الإنسان منذ بدء الخليقة يسعى دون جدوى للاستقلال عن خالقه. بطبعه وطبيعته خلق متمردا وساعيا للتغيير. نحن أيضا لم نهتم فقد عودنا هذا المخلوق الفريد على مفاجأتنا بكل جديد. نحن أنفسنا نذكر أننا عندما بدأنا تنفيذ هذا المشروع، مشروع الخلق، كنا واثقين من أننا سنصطدم بالإنسان مرات أكثر من مرات اصطدامنا بغيره من المخلوقات. وبالفعل اصطدمنا في كل مرة حاول إنكار وجودنا أو انحاز لآلهة أخرى أو عين نفسه إلها مثلنا أو علينا. هزمناه عديد المرات، ولكنه نهض بعد كل هزيمة متأهبا لمعركة جديدة أو ليسدد لنا مفاجأة لم نتوقعها.
وتستطرد الأسطورة، أنه جاء في التقارير الأخيرة أن الإنسان أعد عدته لتخرج من معامله جحافل من البشر المؤهلين لأداء كل الوظائف ووظائف أخرى لم يعلن عنها. استطاع هذا المخلوق الضعيف والمحدود القدرات كما ادعى واشتكى منذ أن خلق، استطاع أن يخلق بنفسه وبدون معونة منا بشرا مثله يفعلون ما يفعل وربما أكفأ وأحسن، والأدهى إنهم يفعلون ما لا يفعل، لأنهم أذكى منه وأقوى ومناعتهم ضد الكوارث والأوبئة والجرائم مطلقة. أيها الإله الأعظم، لعلك لم تدرك بعد المغزى في خطة هذا الإنسان. ابن آدم هذا مقبل على خلق ما لم نخلق إما لأننا عجزنا عن خلقه، أو وهو الأهم، لأننا خفنا من أن نخلقه فيزيحنا ويحل محلنا. الحقيقة الغائبة عنا هنا أن المعامل على الأرض منشغلة الآن بخلق أشباه بشر قادرين نظريا على أن يتحولوا هم أنفسهم في لحظة زمان إلى آلهة تخلق من لدنها كائنات في شكل بشر أذكى منها ومنا ومن كل خالق ومخلوق.
إلَهُنا الأعظم، يا زيوس المقدس والمبجل، لا بد من وقفة مع هذا المخلوق تقرر بنفسك موعدها ومكانها. لقد تجاوز الإنسان بتصرفاته وطموحاته كل ما توقعناه. هو الآن آت بمملكته ليفكك مملكتك أيها الإله العظيم ويقيم فيها.
زيوس يتحدث إلى نفسه هامسا وساخرا، آه لو علمت كل هذه الآلهة أن هذا الإنسان هو خالقها وأنها لم تخلق حتى ذبابة.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق
