انطلقت الطائرة الفرنسية من مطار القاهرة كعادتها صباح كل يوم. وصلنا باريس عند الظهر أو بعده بقليل لنقضي ليلة في فندق معروف. انتقلنا منه بسيارة ليموزين فاخرة إلى المطار في اليوم التالي لنستقل طائرة فرنسية أخذتنا إلى مطار مدينة موروني، عاصمة دولة جزر القمر الواقعة في مياه مضيق يفصل بين القارة الإفريقية وجزيرة مدغشقر.
***
قبل أسبوع من السفر كانت قد وصلتني رسالة هاتفية نصها كالآتي. “الأمين العام عازمك على فنجان قهوة في مكتبه بكرة على الظهر”. تلقيت الدعوة ورحت أفكر. لم تجر العادة في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية على استخدام هذه الصيغة عندما يقرر الأمين العام استدعاء أحد مساعديه لمقابلته. راحت بي الظنون الطيبة إلى اجتهادات عديدة. أخذني ظن إلى أن الأمين العام لا شك يريد تهنئتي ونفسه أيضًا بما حققناه معًا في مؤتمر مقديشيو من زيادة في مساهمات الدول لصالح صندوق المعونة الفنية للدول العربية والإفريقية، الصندوق الذي كلفت قبل شهور بتولي مهام إدارته خلفًا للصديق الدكتور عبد الملك عودة. ذهب بي ظن آخر إلى أنه ربما أراد الإشادة بتقرير كتبته عن البحرين، ولم يطل أمد هذا الظن فالعلاقة بيننا كانت لا تزال في حيز عدم الإشادة بكل ما أكتب ويغلب عليه الأسلوب البحثي.
***
غادرت مكتبي، حيث مقر الصندوق بالزمالك، قبل الظهر بقليل أحمل معي آخر المستندات المصرفية التي تؤكد موقفنا المالي المتميز أملاً في أن أقابل دعوته الكريمة على فنجان القهوة بأخبار تثلج صدره. هناك في المقر بالتحرير استقبلني الزميل والصديق عبد الرؤوف الريدي، بصفته مدير مكتب الأمين العام، كعادته ببشاشة لا تشي بأكثر من الترحيب الحار والصادق الذي تعودت عليه. دقائق معدودة ودخلت علينا السكرتيرة تدعوني لاجتماع مع الأمين العام.
***
استقبلني محمود رياض بابتسامة لم تفلح سنوات الدبلوماسية التي قضاها بين دمشق ونيويورك في تفكيك عسكريتها. سألني وأنا الباحث في العلوم السياسية عن معلوماتي عن جزر القمر، العضو الجديد في جامعة الدول العربية. أجبت إجابة مكسوة ببعض التردد وكثير الخجل وشيء من الاعتذار. هز برأسه معبرًا عن تفهمه ثم قال في شكل التكليف القسري “استعد للسفر إلى هناك على رأس وفد تشكله بنفسك. تحمل رسالة مني إلى رئيس الجمهورية فحواها أن الجامعة العربية تبدي استعدادها المساهمة في دعم استخدام اللغة العربية في مؤسسات الدولة التي لم يمض على استقلالها أكثر من أيام معدودة، وهي، ويقصد الجامعة، في حاجة لاقتراحات من جانب الرئيس وحكومته”. سكت قليلاً ليستطرد بعدها قائلا “الجانب الأهم في مهمتك هو أن تعد تقريرًا وافيًا عن جزر القمر وبخاصة عن حقيقة “عروبتها”، أي عن مدى صحة ما جاء في مّذكرات دول أعضاء مخضرمة في الجامعة رشحتها للعضوية عن اتساع انتشار اللغة العربية وآدابها وعن عمق الاعتزاز بالانتماء العربي بين سكان الجزر الثلاث التي تتشكل منها الدولة”. خرجت من الاجتماع متوجهًا لمكتب رئيس الإدارة العامة للشئون الاقتصادية لاستئذانه في استعارة الزميل صبحي خضير الخبير الاقتصادي ليكون عضوًا في وفد الأمانة العامة. أشهد بأنني أحسنت الاختيار.
***
أعترف أنه حتى يومنا هذا وحتى ساعة كتابة هذه السطور ما أزال قادرًا على اجترار، إن صح التعبير، هذه الرائحة الرائعة والنفاذة التي استولت على الطائرة وعلينا عند اللحظة التي انفتح فيها باب الطائرة التي حملتنا إلى مطار العاصمة موروني. توقعت، بناءً على خبرة العمل في مناطق موسمية وخلال المرور بمطارات في دول آسيوية ودول في غرب إفريقيا، أن تكون الرائحة التي تنفذ إلى الطائرة عند فتح أبوابها غير مستساغة إن لم تكن أسوأ كثيرًا. هنا في مطار موروني اختلف الأمر كثيرًا. فالرائحة عطرة، والأهم كانت متوددة ومرحبة. بالفعل كنت قد قرأت أن الجزر تخصصت منذ القدم في زراعة زهرة اليلانج يلانج التي تصنع منها خلاصات ضرورية لصناعة العطور، هذا إلى جانب نباتات أخرى تبث دائمًا في الأجواء الرطبة المحيطة بها روائح محببة. من هذه النباتات القرنفل والقرفة والزنجبيل والفانيليا.
***
غالبني شعور من مسه سحر ما. بدأ في الحقيقة وأنا أقرأ خلال رحلة الطيران الطويلة عن تاريخ وجغرافية وثقافة بلد لم أكن سمعت حتى عن وجوده. اكتشفت من قراءاتي أنني قصرت فأهملت وظلمت. غير صحيح وزائف تمامًا اتهامي الاستعمار الفرنسي أنه أخفى هذه الجزر وسكانها عن العالم لينفرد بثروتها العطرة والمعدنية على حد سواء.
***
عرفت من الأسطورة أن “جنًا” من مخلوقات الله أسقط من السماء جوهرة اشتعلت عند ارتطامها بالأرض متسببة في حريق هائل (يقصد به في الغالب البركان الذي تفجر في بداية التاريخ فأنشأ جزيرة القمر الكبرى). عرفت أيضًا من أسطورة أخرى رددها أمامي أحد رجال الدين أن الملك سليمان زار الجزيرة بصحبة زوجته الملكة بلقيس. (يقصد ربما بترديد هذه الأسطورة تبرير وجود سكان تعود أصولهم إلى حضرموت والساحل العماني). لأسطورة أخرى وربما حقيقة تحتاج إلى إثبات أن الإسلام دخل هذه الجزر في حياة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، كما أن المسعودي، المؤرخ الإسلامي، كتب عن البحارة العرب الذين أطلقوا على هذه الجزر “جزر العطر” نسبة إلى محاصيلها ذات الروائح العطرة.
***
توقفت محركات الطائرة ونهضنا استعدادا للنزول. أقبلت علينا مسرعة مضيفتنا في الدرجة الأولى حاملة رسالة من القبطان يرجونا فيها أن نتريث، ففي الطريق إلى الطائرة وفد من كبار القوم قادم للترحيب بنا. وصل الوفد فوقفنا لاستقباله أنا وزميلي العضو الثاني في وفد الجامعة، وهنا حدثت المفاجأة غير المتوقعة بالمرة. قدمت نفسي باسمي وباعتباري رئيس الوفد فإذا بأكبر المرحبين سنًا ينحني ويسحب يدي بقوة ليقبلها. سحبت يدي. ولكنه عندما رحب بزميلي لم يقبل يده. أما عن باقي وفد المرحبين وبينهم مندوب من رئاسة الجمهورية ومندوب عن وزارة الخارجية فقد اختار أغلبهم تقبيل يدي وامتنع قليلون.
***
خرجنا إلى سلم الطائرة فإذا بالهتافات ترتفع والتهليل يتصاعد فالمطار مكتظ بالناس. ما أن حطت أقدامنا على أرض المطار حتى وجهنا مندوب الخارجية بضرورة أن أعتلي منصة الخطابة فالجماهير جاءت لترحب ولتحصل على البركة ولتسمعنا. لم أعرف عن نفسي كفاءة إلقاء الخطب، وعندما حاولت تصدير زميلي فهو من العراق، أهل الخطابة وتحريك الهمم، نبهني كبير الوفد الشعبي إلى أن الناس تنتظر مني أنا الخطاب. كان تصورنا المشترك أن صيتنا كوفد عربي يزور دولة لأول مرة لا بد من أن يحمل معه زكائب الدولارات والريالات.
***
لا شك أن مندوبي الرئاسة والوزارة لاحظا دهشتي بسبب هذا الاستقبال الفريد، وأحدهما تخرج من جامعة مصرية، فانتهز فرصة الانفراد بي في السيارة التي نقلتنا إلى الفندق ليشرح لي ما خفي عني وما كان في حكم المستحيل أن انتبه إليه وحدي. قال بلهجة مصرية لا تشوبها شائبة ما معناه، “حضرتك متزوج من سيدة تنتمي أصولها إلى قيادات معروفة في الطريقة الشاذلية في عكا الفلسطينية، وهي الطريقة الصوفية التي ينتسب لها الغالبية العظمي من أهل البلاد باعتبارهم مسلمين. وقد بلغتهم هذه المعلومة قبل وصولكم، فانتشر الخبر في الجزر الثلاث وخرج الناس إلى المطار للترحيب بكم وفي نية آخرين زيارتكم في الفندق أملاً في أن تحل البركة فيهم وفي أولادهم عن طريقكم”.
***
قابلنا رئيس الدولة. جرى الحديث بالفرنسية. رحب بنا. اتضح لي خلال المقابلة أنه كان في انتظار أن تحصل الدولة خلال زيارتنا على معونة مادية من الجامعة العربية، تعقبها معونة أكبر. كانت واضحة على وجهه خيبة أمله ويبدو أنه نقلها إلى بعض الوزراء. ففي اليوم التالي انعقد عندنا في الفندق مجلس الوزراء ليستمع لنا ويبلغنا رسميًا الحاجة الماسة إلى المعونة المادية واستجابة لرغبتنا قرروا طلب تزويد الدولة بمطبعة مزودة بالحروف العربية.
***
زارنا بالفندق كما توقعنا وفد رجال الدين الإسلامي. سألت فأجابوا ما يفيد بأن المتحدثين بالعربية في الجزر الثلاث لا يزيد عددهم عن عدد أعضاء هذا الوفد وأغلبهم درسوا في الأزهر على منح من الدولة المصرية. سألت أكثر فسمعت أن السلطة الحقيقية في الدولة في يد (روب دينار)، الضابط الفرنسي المتقاعد ومعه مجموعة من المغامرين الفرنسيين المسلحين. ولا سلطة حقيقية في يد مواطن من أبناء الجزر. سمعت أيضًا أنه من المرجح أن يكون قرار طلب الانضمام للجامعة العربية قد صدر في باريس.
***
عدت إلى القاهرة أحمل توصيتي أن يشتري صندوق المعونة مطبعة بالحرف العربي مساهمة في تعريب المراسلات الرسمية وإصدار صحيفة وطبع الكتب المدرسية. ووفق على توصيتي. اشترينا المطبعة وتسلمتها موروني. فهمت بعد تركي العمل في الصندوق أنه بعد مرور عام أو أكثر عاد فأوصى بإرسال أحد الفنيين من الجامعة إلى موروني لإجراء عملية صيانة للمطبعة.
***
عاد الخبير من رحلته بتقرير يفيد بأنه وجد المطبعة تحمل حروفا لاتينية وتطبع بالفرنسية.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق