لكم تبدت بهية ومنعشة للآمال تلك المراسيم التي كاد ينساها اللبنانيون وهي تستعاد ـ على عجل ـ أمس، في مبنى المجلس النيابي، بكل من احتشد في داخله ومن حوله للاستماع إلى خطاب يداني البشرى، يلقيه رئيس جديد للجمهورية ـ قيد التأسيس، تم التوافق على <استعارته>، مرة أخرى، من المؤسسة العسكرية، ليكون انتخابه إعلاناً بنهاية مرحلة الاختلاف إلى حد الاحتراب وإعادة فتح الأبواب وسيعة أمام تسوية سياسية تحفظ الكيان بنظامه الذي لا يكف عن توليد الأزمات.فحين وقف العماد (سابقاً) الرئيس (الآن) ميشال سليمان ليلقي <خطاب القسم> كان كمن يقرأ إعلاناً بعودة الروح إلى الوطن الصغير، برعاية أممية نادرة المثال: فكل العالم كان حاضراً، وكان ممثلو دوله ـ شرقاً وغرباً، من الجوار القريب إلى الغريب البعيد ـ يتابعون التفاصيل اللبنانية المسلية بشغف لم تغب عنه الدهشة.كان ممثلو <الدول> ينظرون من عل إلى <أصدقائهم> اللبنانيين يتلاقون بعد افتراق، لم يكونوا أبرياء من تفاقمه إلى حالة من العداء بين الإخوة، يهزون رؤوسهم إعجاباً، أحياناً، ويصفقون بحكم التقليد أحياناً أخرى، ثم ينهضون إلى المباركة والتهنئة بعد رفع الجلسة التي كان لا بد أن تقسم على مرحلتين: الأولى لانتخاب الرئيس باجتهاد دستوري وجد من يحاول الاعتراض عليه، برغم ضرورته، والثانية للاستماع إلى خطاب العماد الذي خلع البزة العسكرية ليصير الرئيس الثاني عشر للجمهورية التي تحتاج كل بضع سنوات إلى عملية ترميم لحفظ الفرادة في نظامها الهجين: الديموقراطية التوافقية (بين الطوائف والمذاهب!!)… حيث رعاياها لم يكونوا أبداً <مواطنين>!كان المشهد سوريالياً في بعض جوانبه: <العالم> كله يحتشد في القاعة التي لا تقبل مزيداً من التوسيع، و<الوسيط> الذي نجح حيث فشل <الكبار> يمثل دولة قطر، وهي أصغر من لبنان ذاته، لكن قيادتها أوتيت من البراعة وحسن القراءة ما مكّنها من أن تلعب أدواراً خطيرة، أكبر بكثير من حجمها، ومهما كانت ثروتها، في منطقة ليست غزارة الإنتاج النفطي دائماً بين أسباب النجاح في المهمات الدقيقة التي تتصدى لها، والتي تحتاج مع الحكمة إلى شجاعة الاقتحام..ميشال سليمان هو الرئيس الثاني عشر لهذه الجمهورية التي تعيش في قلب الخطر. ولكل رئيس سبق قصة غالباً ما انتهت بغصة أو أكثر. أولهم خلع لأنه مدّد ولايته. واثنان من رؤسائها تم اغتيالهما فور انتخابهما. واثنان تركا القصر الجمهوري بلا رئيس. وإجمالاً: ندر أن ترك أحدهم المقعد لخلفه بغير إشكالات تخلخله وتهدد ـ عبره ـ الوفاق الوطني!الرئيس الثالث من الجيش. أليس هذا دليلاً صارخاً على عجز الطبقة السياسية التي كثيراً ما دفعت البلاد إلى شفا الحرب الأهلية؟ثلاث مرات خلال خمس وستين سنة تم الاستنجاد بالمؤسسة العسكرية، لحل معضلة التخلف في الطبقة السياسية التي حكمت سعيدة، فضلاً عن تخلف النظام؟!… وهذا الآتي <من مملكة الصمت إلى حيث الكلام هو السيد> ـ بالإذن من أستاذنا منح الصلح ـ لا يتقن الخطابة وفنونها ذات الدوي أو الرنين. إنه يقول ما يفكر فيه ببساطة شديدة. إنه يحمل تاريخه على كفه. لقد أدى واجبه على امتداد أربعة عقود إلا قليلاً. ولقد أنجزت المؤسسة التي أنجبته: حفظت السلام الأهلي، برغم حدة التعارض بل المواجهات في الشارع، بأن حفظت به ومعه جمهرة من الضباط الوطنيين، المؤسسة العسكرية بوصفها الضامن والضمانة وهو يعرف أن الاستراتيجية الدفاعية ضرورة، وأن اعتمادها بنجاح هو الضمانة لانخراط المقاومة في الدولة بما يحمي قضيتها.. أي قضية الوطن.وهو قد أعاد في خطابه التوكيد على الثوابت. لكن الثوابت لم تعد من البديهيات. يلزمها الآن إعادة اعتبار. وها هي الخطوة الأولى على طريق الألف ميل تقطع مع إطلاق خطابه: ها قد تم ترميم مؤسسة الرئاسة، وقد توفر المناخ الوفاقي ـ مبدئياً ـ لإعادة الروح إلى سائر مؤسسات الدولة (بل لإعادة بنائها)، وعلى تمكينها من أن تكون المرجعية الطبيعية <للمواطنين> في مختلف شؤونهم وشجونهم، وما أثقلها.ولأنه <خطاب العهد>، ولأن <الرئيس> في لبنان ليس الحاكم الفرد، كما الحال عند بعض شهود الحال من ضيوف الحفل، وليس وليد الديموقراطية الراسخة في مجتمعاتها المتحررة من الطائفيات والمذهبيات، كما الحال عند ضيوف آخرين، فقد لامس مشكلات النظام والمجتمع بلغة <الناصح> و<الموجّه> أكثر منه بلغة صاحب حق الإمرة. وكان لا بد أن يستذكر مطالب عتيقة، لكنها حساسة في بيئات معينة، حتى لا يتهم بإهمالها، فقد شفع حديثه عن إعادة تجنيس المغتربين بتوكيد الرفض (الدستوري) القاطع لتوطين الفلسطينيين في لبنان.[ [ [… وأما الرئيس نبيه بري فقد جاءته الفرصة، أخيراً، ليرد من قلب المجلس النيابي، وفي لحظة استسلام الأطراف جميعاً لمنطق التسوية، على ما وُجّه إليه من اتهامات، بعضها أقسى مما يحتمل: أنا من أنشأ طاولة الحوار، أنا من ابتدع طاولة التشاور، أنا من عرض فرفضتم، أنا من حاول فخذلتموه… ها أنتم تسلمون بما كان يمكن أن نصل إليه قبل سنة أو يزيد، وها أنتم تقبلون بأقل مما عرضت عليكم!كذلك جاءته الفرصة ليستعيد بشيء من قريحة الشعر لديه، تدليلاً على أنه ابن جبل عامل، خصوصاً أن اليوم هو عيد التحرير، استذكار بطولات المجاهدين الذين حفظوا الوطن ونظامه الذي لم يكن يعترف بهم، ثم نبّه إلى أن أي مس بالمقاومة يتجاوز خيانة الدماء التي بذلها أبناؤها من أجل حفظ الدولة والنظام، في وجه الحرب الإسرائيلية المفتوحة.كان <ضيف الشرف ـ أمير قطر> يتابع المشهد باهتمام يخالطه شيء من الفضول. وهو حين وقف خطيباً كان يستشعر في جهده الناجح قوة تمكنه من توجيه النصح، ولو من موقع <الشقيق الصغير>، وليس بلهجة الأب القاسي أو الشقيق الكبير المستقوي باختراقاته للداخل، أو بنفوذه الدولي الناتج عن ثرائه الهائل.فنجاح الوساطة القطرية شهادة على النظام في لبنان، بقدر ما هي شهادة لذلك البلد العربي الصغير بمساحته والذي وسّعت له قيادته آفاق دوره بعدما تحررت وحررته من تقاليدها البدوية لتحاول الدخول به إلى عصر التمدن والتحضر والأخذ بأسباب الرقي الاجتماعي والسياسي.وصحيح أن لبنان ليس كمثل قطر، ولعله لا يشبه أي بلد آخر في العالم، ولكن من الواضح أن نظامه عقيم، وأن قياداته السياسية تنجب المشكلات لتعيش منها وعليها ولا تهتم كثيراً بابتداع الحلول التي تتناسب مع قدرات شعبه فضلاً عن حقوقه.المقارنة فاضحة: فالنظام في لبنان، وبالاستطراد مؤسسات السلطة عموماً متخلفة تحكم شعباً مؤهلاً للتقدم والتحرر من معوقات التخلف، (بما في ذلك الطائفية، التي ـ للمناسبة ـ تمت إعادة الاعتبار إليها في اتفاق الدوحة، كأنما لضمان تفجر النظام بعد عشر سنوات أو أقل)…. أما النظام في قطر فيقود شعبه الصغير في اتجاه التقدم، محاذراً أن يتبدى وكأنه يقوده بالسلاسل… ولو صنعت من ذهب مصفى
