الولايات المتحدة الأميركية امبراطورية تحكم العالم. الحكم عشوائي. ما يُسمى القانون الدولي هو الإرادة الأميركية. هذه لا تخضع إلا للقوانين الأميركية. أي معاهدة مع دولة أخرى لا تصير نافذة إلا إذا صوّت عليها الكونغرس بمجلسيه. فتصير المعاهدة قانوناً أميركياً.
الإدارة الأميركية تخضع للقانون الأميركي، وهذا بدوره من المفترض ان يتلاءم مع الدستور الأميركي. كل اتفاق يعقده رئيس أميركي، دون أن يصير قانوناً، بمعنى تبني الكونغرس له، يمكن أن يلغيه رئيس من بعده. ولا يستطيع رئيس أميركي أن يعطي ضمانات أو تأكيدات لما سيفعل من يأتي بعده. ما تطلبه إيران من ضمانات للاتفاق النووي، إذا أنجز، سيكون مصيره مثل الاتفاق السابق.
صحيح أن الرئيس الأميركي هو الذي يفاوض، بمعاونة فريق عمل أو بواسطته، لكن علينا أن نفهم أن التعامل الأساسي مع الامبراطورية الأميركية هو في النهاية مع النظام (السيستم)، وليس فقط مع الرئيس. الرئيس نفسه عليه أن يخضع للسيستم. تجري الانتخابات الرئاسية، وأخرى لبعض أعضاء الكونغرس، كل أربع سنوات. ويبالغ المحللون في تحليل التوقعات بالتغيير حين يتوقعون تغييرات كبرى في حال مالت الكفة في هذا الاتجاه أو ذاك. صحيح أن النظام الأميركي رئاسي في بعض نواحيه، إلا أنه نظام برلماني يلعب فيه القضاء دوراً كبيراً. يستطيع الرئيس أن يلتف على الكونغرس في بعض الأحيان، لكنه لا يستطيع أن يتخذ قرارا يعارضه الكونغرس بشدة. والقضاء يمكن أن يلغي قرارات أخذها الرئيس والكونغرس.
ودرو ويلسون أمضى شهوراً في مؤتمر فرساي بعد الحرب العالمية الأولى، وكان أساسياً في عقد الصلح وتأسيس عصبة الأمم. لكن الصلح كان يتطلّب اجراءات إضافية تتعلّق بالتسويات المالية، من أجل منع ما حصل بين الدول الأوروبية بعد ذلك. ولم يوافق الكونغرس. وكان ذلك مهماً في تحوّل ألمانيا نحو النازية، وحصول الحرب العالمية الثانية. كما أن الكونغرس كان موقفه مشابهاً بشأن عصبة الأمم التي أنشئت دون الولايات المتحدة. وما أعيد إنشاء ما يشابهها بصيغة أخرى إلا بعد الحرب العالمية الثانية. ومن ناحية أخرى، ألغى القضاء الأميركي (السوبريم كورت) ما شرعه هو نفسه بخصوص الإجهاض، قبل خمسين عاما، وذلك عندما صارت الأكثرية في مجلس القضاء الأعلى من المحافظين.
لا تخضع الحكومة الأميركية إلا للقوانين الأميركية. والمعاهدات الأجنبية تصير قانونا بمقدار ما يتبناها الكونغرس. على الرئيس وما يعقده من اتفاقات أن يخضع للسيستم. وهذا وحده هو الضمانة لأي اتفاق ولو الى حين. السيستم نفسه يمكن أن يتغيّر المزاج فيه، ولو بصعوبة وبوتيرة أقل.
لا تخضع الامبراطورية لقانون دولي. فهذا غير موجود. تخضع لقانون أميركي وحسب. ولا تعطي اهتماما لاتفاقات دولية إلا بعد أن تصبح هذه جزءاً من السيستم الأميركي عن طريق الكونغرس. قيادة الولايات الأميركية المتحدة لا تخضع إلا لقانون بلادها. هي قيادة عشوائية لا تراعي إلا المصالح الأميركية المادية والايديولوجية، مهما ادعى الداعون من أنصار النظام الامبراطوري أو خصومه. حتى محكمة الجزاء الدولية ليست الولايات المتحدة فيها، كي لا يخضع أميركيون لقوانين غير أميركية، وكي لا يحاكم مواطنون أميركيون خارج إطار الولايات الأميركية.
لا يعتقد قادة الرأي الأميركيون أن أي قوانين في العالم تضاهي القانون الأميركي. وهذا مبعثه الاستعلاء الأميركي. هي ” مدينة على جبل”، كما عبّر قائد أول موجة هجرة عند الوصول الى شاطىء ما سمي بعد ذلك الولايات المتحدة الأميركية. هي أيضاً استثنائية. تعتبر نفسها نموذج الحرية والاستقامة، وتختلف عن بقية العالم، بما فيه الحلفاء الأوروبيين. فهؤلاء يعتبرهم الأميركيون قارة عجوز، نخرها الفساد عبر القرون. الأخلاق الأميركية مختلفة عن بقية العالم. حتى الله الذي يخصهم غير الآخرين، كما صرّح منذ عقدين أحد الجنرالات الأميركيين. صحيح أنه أدين في الولايات المتحدة، لكن الإدانة لم تكن لأن الرأي غير شائع بل لأنه أفصح عما هو مضمر، والذي يجب أن يبقى كذلك، ولو كتبت عنه مقالات وكتب كثيرة. الاستثنائية الأميركية رأي موجّه في السياسة الأميركية، وحرية إبداء الرأي بغير ذلك متروكة للأكاديميين. القانون الأميركي أيضاً ينص على حرية إبداء الرأي، عندما يكون هناك رأي. والرأي السائد غير ما يعبّر عبنه المناضلون الاحتجاجيون والأكاديميون. ولدى الرأي السائد كره دفين (يُعلن عنه أحياناً) للأكاديميين وللمخالفين في الرأي؛ وهؤلاء تبقى لهم الحرية ما داموا أقلية لا يشكلون خطراً على السيستم. الحرية مثل أعلى أميركي. هكذا يعتقد الأميركيون بفخر. لكن المخالفين تعرضوا لحملات شرسة كما حدث مع المكارثية في مطلع الخمسينيات الماضية. ولم تتوقف الحملة على أصحاب الرأي المخالف إلا عندما تعرّض مكارثي لقائد في الجيش الأميركي، متجاوزاً حدوده في حملة افترض منذ البداية أنها ضد أصحاب الرأي المخالف وحسب.
في القوى العسكرية والأمنية الأميركية تربية قاسية على طاعة السيستم، والتحرّش به أمر غير مسموح. معارضو حرب فيتنام، خاصة طلاب الجامعات، تعرضوا لحملات شرسة من النظام. سقط عدد كبير من القتلى والجرحى. حملات طلاب الجامعات الأميركية حينذاك صارت جزءاً من ثورة 1968. وهذه قمعت برغم أنها أحدثت تغييرات كبيرة في السيستم، وفي طرائق التفكير. لا تحدث في الغرب الامبريالي تغييرات فجائية، بل تطورات طويلة المدى، يدجنها السيستم للبقاء ضمن حدود مسموح بها. السيستم نفسه يتطوّر بمقدار ما يسمح بتدفق ثروات العالم الى المركز. كل تطوّر محمي بقوة السلاح (الجيوش الأميركية المنتشرة في أنحاء العالم، والدولار الذي صار هو العملة النقدية العالمية، وكلاهما يخضعان للإرادة الأميركية). الجيوش تنقاد لأهل السياسة. والدولار تطبع منه كميات كبرى دون مقابل مادي لها. على أن تناسب أسعارها المصالح الأميركية. ولا يحدث تحويل مالي في العالم من بلد الى آخر دون التسجيل عبر نظام الـ”سويفت”. وقد جعلت هذه الشركة مركزها الرئيسي في بلجيكا. لكن كل تحويل دولي يجب أن يحمل رقماً تعطيه “سويفت”، وهي شركة “خاصة”.
هذا السيستم الأميركي مركز لنظام رأسمالي عالمي. يجبي من بقية العالم ثروات هائلة. تخرج من الولايات المتحدة استثمارات ومساعدات، لكن التدفقات المالية إليها أكثر بكثير مما يخرج منها. لا تتبرّع الامبراطورية من كيسها بل من كيس العالم. كالاقطاعي الذي “يتبرّع” لفلاحيه؛ هو يتبرّع من نتاج عملهم الذي اقتطعه بالقوة. الفرق بين الاقتطاعات الرأسمالية واقتطاع أنماط الإنتاج السابقة لها، أن هذه تقتطع بالقوة بينما اقتطاعات النظام الرأسمالي تحدث تعاقدياً بما يعطي المقتطع منه شعوراً بأنه طرف في العقد، وأنه حر في أن يخضع أو لا يخضع في أن يسلم ما أنتجه أو لا يسلمه. وهم الحرية التعاقدية التي جاءت به الرأسمالية يخفي استغلالاً أشد وأدهى من الأنظمة السابقة. ليس صحيحاً أن الامبراطورية الأميركية ليست ولم تكن دولة استعمارية. الحروب التي خاضتها منذ استقلالها تفوق عدد سنوات الاستقلال. وبالمناسبة كان من أوائل حروبها واحدة ضد المنطقة المسماة الآن ليبيا، عام 1804، بحجة مواجهة “إرهاب القراصنة”، وما تزال طرابلس الغرب مذكورة في نشيد المارينز.
كل ما يجري في العالم، شرقه وغربه، من القطب الشمالي الى القطب الجنوبي، صغيره وكبيره، يمس المصالح الأميركية سلباً أو ايجاباً. جيوشها المنتشرة حول الكرة الأرضية بأساطيلها وقواعدها العسكرية، هي لحماية المصالح الأميركية. والمصالح سواء كانت مادية أو ايديولوجية يفسرها أرباب النظام في المركز. خريطة الكرة الأرضية مقسمة في البنتاغون، مركز وزارة الحرب، الى 7 مناطق. لكل منطقة جيش بري، وآخر بحري، وآخر جوي، وقيادة تخضع هي وأخواتها للقيادة الرئيسية في الولايات المتحدة.
يتشكّل السيستم الأميركي رسمياً من الكونغرس ومؤسسات بيروقراطية وأمنية وعسكرية. هذا ما يظهر لنا، وهو حقيقي. لكن ما يقرر الوعي السائد الأميركي، خاصة الوعي السائد في أروقة السلطة، هو أوعية التفكير (Think Tanks) والشركات الكبرى الأميركية وغير الأميركية من حول العالم، التي تختص بما يسمى lobbying، أي التخاطب مع أعضاء الكونغرس. وهناك مؤسسات دولية تلعب فيها الامبراطورية دوراً كبيراً، وتسيطر على القرار فيها، وهي صندوق النقد الدولي؛ البنك الدولي؛ منظمة التجارة الدولية؛ مؤتمر دافوس وأشباهه يفيد في الضخ سنوياً بأفكار النخبة الرأسمالية، خاصة المالية. الولايات المتحدة هي القوة العظمى الرئيسية، وهي تسيطر على دول العالم، ليس بالقوة العسكرية الظاهرة فقط، بل أيضاً بطبقة عليا تنتمي الى الايديولوجيا الأميركية السائدة، وتفكر مثلها، وتحاول أن تكون مقطورة لمركز الطبقة العالمية في واشنطن، وفي معظم الأحيان لاملاءاتها. فالسياسة الأميركية العالمية تمليها الطبقة الرأسمالية المركزية في الولايات المتحدة، ويتبعها الطبقات العليا الأخرى حول العالم. يشكّل كل ذلك متاهة السياسة الأميركية الجيوسياسية. صحيح أن الآراء فيها متعددة لكن صاحب القرار واحد، وهو في المركز الأميركي. من السهل أن يضيع المرء داخل المتاهة السياسية الأميركية، لكن القرار السياسي النهائي بتخذه مركز واحد. لذلك يصعب على أي رئيس أميركي أن يعطي ضمانات دون إجماع أو شبه إجماع داخل المتاهة السياسية الأميركية. الثابت في كل ذلك أن الولايات المتحدة تقرر هي مصالحها حول العالم. لذلك تبدو عشوائية، وهي كذلك. هذا لا يعني أنه لا يمكن مقاومة التسلّط الأميركي حول العالم. فيتنام الشمالية هزمت الولايات المتحدة، لكن الهزيمة لم تكن في الميدان، في فيتنام الجنوبية، بمقدار ما كانت في الداخل الأميركي، حيث كانت المعارضة للحرب شديدة وواسعة، وانتشار الثورة ضد الحرب وضد السياسات الأميركية تزامن مع ثورة 1968 في أوروبا الغربية، مما أدى الى إسقاط بعض القادة (منهم شارل ديغول). وكان انقسام العالم الى معسكرين، سوفياتي من ناحية، ورأسمالي غربي تقوده الولايات المتحدة من ناحية اخرى، أمراً يبعث على الرعب لدى الرأسمالية العالمية. سقط الاتحاد السوفياتي من الداخل، وزالت القطبية الثنائية. لم يعد للولايات المتحدة عدو ينافسها على قيادة العالم. لكن عدوانية أميركا كانت بحاجة الى عدو جديد. تطور الأمر الى أن أصبح ذلك العدو هو روسيا ودول أخرى في العالم، منها إيران. الجيوش الأميركية في العالم بحاجة الى حروب، والى اصطناع أعداء من أجل تجارة السلاح، والأدوية، وعولمة التجارة الأميركية.
ما إن اشتد عود فلاديمير بوتين او القومية الروسية حتى قدما لأميركا العدو على طبق من ذهب. حاولت روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الدخول في الحلف الأطلسي، ومنعت من ذلك. وأعطيت “ضمانات” بأن الحلف لن يتوسّع شرقاً، لكنه فعل ذلك، وصار الحلف وقواته على حدود روسيا، مما حفّز القومية الروسية التي يعبّر عنها بوتين، وحفّز قوميات أخرى، كالصين وإيران وتركيا التي تمتد أراضيها على مساحات من آسيا وأوروبا، ولما حاولت دخول الاتحاد الأوروبي، جوبهت بالرفض. دخلت روسيا الحرب ضد أوكرانيا معتبرة الأمر مجرد مواجهة، أو غزوة كما مع جورجيا أو في كازاخستان، لكن حجم أوكرانيا والدعم دون حدود بالسلاح والمال من الامبراطورية الأميركية والغرب عامة، حولا المواجهة الى حرب فعلية شديدة المرارة والتخريب والتدمير والتهجير للأوكرانيين. بحيث يبدو وكأن حرب أوكرانيا هي بمثابة فخ نصبته الامبراطورية الأميركية لبوتين ومن ورائه في موجة الهستيريا القومية الروسية. الهستيرية القومية الأوكرانية لا تقل شراسة، وهي تستفيد منها بالمال الطبقة الحاكمة لديها.
الامبراطورية الأميركية لا تقدم ضمانات من أجل السلام، بل تتصرّف بما يجعل الحروب في العالم أمراً أكيداً. فرض عقوبات على دول وشركات وأفراد من مناطق أخرى هو تطبيق القانون الأميركي خارج منطقة السيادة الأميركية. تعتدي على سيادة الدول الأخرى وتجعلها مخالفة للقانون الدولي، الذي ما هو إلا الإرادة الأميركية، التي تبدو عشوائية في معظم الأحيان، لكنها مبرمجة في مراكز القرار الأميركي، التي على الرئيس الخضوع لها. بالأحرى، مسايرتها كي ينال الأصوات في الكونغرس لتنفيذ ما يتفق عليه دولياً.
الضمانات التي تطالب بها إيران لن تحصل عليها حتى ولو وقّع بايدن. تكافؤ القوة هو الضمان الوحيد، ولا يدري أحد إذا كان ذلك متوفراً.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق