خلال فترة زمنية قصيرة، لعلها لا تتجاوز ثلاث سنوات، تحولت بكركي من مرجعية روحية لطائفة من اللبنانيين، ذات وهج تاريخي لأسباب تتصل بابتداع الكيان اللبناني وطبيعة نظامه (وريث المتصرفية)، ومواقع الطوائف فيه، من حول الموقع الممتاز »للمارونية السياسية« إلى ما يشبه المقر المؤقت للقيادة السياسية لمستقبل لبنان.. بالانفصال المطلق والمؤكد مرة أخرى بالضمانات الدولية عن سوريا، (وآخرها قرار مجلس الأمن الرقم 1559).
صارت بكركي أو صيّرتها الظروف، بالأخطاء فيها والاجتهادات، وكأنها نقطة تقاطع المصالح المتعارضة: مرجعية »الداخل«، بالموارنة وطوائف أخرى، ومركز توجيه السياسات الخارجية، أو المتكأ المثالي لكل صاحب مصلحة أو غرض في لبنان، ولكل طامع في سوريا أو مخاصم لحكمها، ولكل صاحب مشروع لإعادة صياغة الحياة في المنطقة.
لم تعد بكركي صاحبة المركز الممتاز لدى فرنسا، كائناً من كان شخص »الرئيس« فيها أو أحزابها (حاكمة ومعارضة)، بل هي صارت مرجعية سياسية أولى في الشأن اللبناني العام، وأحد مراكز توجيه السياسات الأجنبية (والأميركية خصوصاً) في المنطقة.
لم تصبح بكركي بديلاً من دمشق، ولقد امتنعت عن أن تكون أو عن أن تدفع لتكون بديلاً منها أو عدواً لسوريا، ولكنها أصبحت ملجأ المتقدمين لكي يكونوا القيادة البديلة، و»المطهر« الذي لا بد أن يمر به أصحاب مشاريع التغيير في الداخل بالاتكاء على الخارج، مستفيدين من أخطاء »النظام« الذي بنته دمشق بالاستناد إلى اتفاق الطائف وعبره، وبأسلوبها الخاص على امتداد عقدين من الزمن والذي يترنح الآن وكأنه على وشك السقوط.
والحقيقة أن كل ما زاد في دور بكركي والبطريرك صفير إنما جاءه بداية من النقص الذي أصاب الدور السياسي لرئاسة الجمهورية، وللرئيس إميل لحود شخصياً، ليس فقط لسبب طائفي، وإنما لأن المعارضة السياسية كانت وما تزال أعجز من أن تقدم نفسها بديلاً من الدولة، وأضعف من أن تتفق على رأس بديل لهذا النظام… فالفشل الذريع لأهل »نظام اتفاق الطائف«، ولو معدلاً أو ممسوخاً كما يقول المعارضون، لا يصلح أرضاً جديدة لإعادة إحياء النظام القديم للمارونية السياسية، كما أن مجرد ظهور »شبحها« في الأفق يقسم المعارضة الواحدة إلى معارضات، فكيف إذا كان المعارضون متعددي الاتجاهات والمصالح (والطوائف) أصلاً، ومختلفين أشد الخلاف على تصوّر المستقبل.
وباختصار: فبكركي ليست بديل بعبدا، والبطريرك صفير ليس بديل الرئيس لحود، وضعف الرئيس ينقص من قوة الدولة، تماماً كما أن تعاظم نفوذ المرجعيات الدينية يحسم من رصيد الدولة ويطعن بمشروعية النظام الذي تبشّر به أو تزيّنه أو توحي باعتماده طريقاً للخلاص من الحكم الفاشل القائم… لكن ما بعد ذلك مخاطر جمّة، ليس من باب التهويل افتراض الحرب الأهلية بينها.
لقد أوحى الرئيس لحود عند انتقاله من قيادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية أنه سيكون الرئيس الأقوى في تاريخ هذه الجمهورية التي قامت بالمساومات بين أقوياء الخارج وضعفاء الداخل. لكن التجربة أثبتت، من أسف، أنه أضعف الرؤساء في حنكته السياسية، وفي قدرته على المواجهة، وفي تحقيق شعاراته التي تحوّلت من مطامح شعبية مشروعة إلى أوهام كاريكاتورية تثير الضحك المر، وتفاقم من خيبة الأمل في إصلاح هذا النظام ودولته المشروخة بالطائفية وصراع المصالح الأجنبية وأغراض السياسيين الصغيرة..
فمع حكومة برئيس قوي انكشف ضعف رئيس الجمهورية، فانتقل من موقع »القائد« و»المصلح الثوري« الآتي بخطاب القسم لينشئ »العهد الجديد«، إلى موقع »المعارض الأول«.. وبالطبع استحال عليه أن يحكم، كما استحال على رئيس الحكومة أن ينفذ »مشروعه« فانتهى الأمر بتجميد الدولة، بعدما كان أقطاب العهدين قد توزعوا المناصب العليا ومواقع القرار في الإدارة، واستولوا على أو صادروا أجهزة الرقابة بمجموعة من »الزلم«، ومن عجزوا عن تعيينه حيث يرغبون أبقوا موقعه شاغراً… لمن سيخدم »العهد« عبر من اعتبر نفسه ولي أمره، لأنه »مرّ« لا يؤكل ولا يبلع بسهولة، ويعرف مصلحة العهد أكثر من صاحبه، ويفهم كيف ينهي المعارضة من قبل أن تقوم!
.. أما مع حكومة ضعيفة فإن رئيس الجمهورية قد انكشف أكثر، فصار مرمى لسهام المعارضة، كما أن العجز عن الإنجاز قد ضيّع الحكومة وأفقد رئيس الجمهورية المزيد من النقاط، وأسقط عنه الحصانة أكثر فأكثر.
ولم يكن بوسع الحكومات أن تغطي على ضعف رئيس الجمهورية، لا متى كان رئيسها قوياً يفرض نفسه عليه بقوته، ولا متى كان الائتلاف الوهمي بين أهل النظام الجديد يتوزعها حصصاً فيستولدها جهيضاً، بينما يكون على رئيس الجمهورية أن يدفع الثمن سواء استنكف أو شارك في اقتسام الغنائم، فهو الوحيد ذو الحصانة التي لا يجوز أن تُمس أو تُهدر في صراع بلا أفق في انتصار!
* * *
نعود إلى بكركي ودورها الذي تضخم حتى تسبّب بإضفاء أحجام وهمية على المعارضات المختلفة والتي لا تتفق إلا في اللجوء إلى حصانة البطريرك، وإلى »الغموض الخلاق« لموقفه الذي يحرص على أن يجعله »فوق السياسة« في حين أنه في صميمها..
إن البطريرك صفير الذي يبدو الآن كأنه »أقوى رجل في لبنان« لا يستطيع أن يغادر موقعه الديني المتقاطع مع الجذر السياسي للنظام وموقع المارونية السياسية فيه، إلى موقع القيادة السياسية المباشرة، التي قد تتسبّب بإفقاده بعض التقدير والاحترام والتبرئة من الغرض الذي يحيطه به الناس عموماً، حتى لو تبدت هذه القيادة السياسية وكأنها في حالة شغور.
إنه مرجع ولكنه ليس زعيماً وليس قائداً سياسياً ولا يجوز أن يكون.
ولقد انتصر البطريرك صفير على الغواية، كما تغلب على محاولات الاستدراج التي جرّب أن يدفعه إليها بعض الذين لا يملكون مؤهلات القيادة، فحاولوا وألحّوا عليه أن يتقدم الصفوف بديلاً من القيادات التي غابت بفعل الموت (كميل شمعون، بيار الجميل) أو التي غُيَّبت بفعل عوامل أخرى سياسية في جوهرها حتى لو أُلبست ثياب الجرائم والاختلاس. وليس سراً أن كلاً من سمير جعجع وميشال عون كان يملك مشروعاً انقلابياً كاملاً، الأول من داخل »النظام الجديد« والثاني من خارجه وعلى أنقاضه، بغض النظر عن التمايز »الداخلي« بين المشروعين. كذلك ليس سراً أن جعجع كان يريده عبر »توكيل سوري عام« يتولى تنفيذه ب»قواته« وعبر التعاون المخابراتي والعسكري لتنفيذ المشترك من الأهداف السياسية، والثاني عون عبر التعاون المفتوح مع سوريا والمرتكز إلى قاعدة عسكرية عبر المقولة الشهيرة التي وجهها على شكل رسالة إلى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد والتي تضمنت ما معناه »اعتبرني ضابطاً صغيراً في جيشك الكبير«.
* * *
يستقبل البطريرك الناس جميعاً. صارت بكركي مزاراً بعدما كانت لفترة أشبه بحائط مبكى. كان يتلقى الشكاوى فيتألم وهو ينقلها إلي الجمهور معتذراً بأن موقعه لا يتيح له أكثر من رفع الأمر إلى من بيدهم الأمر. ثم بدأ يسجل على من بيدهم الأمر أنهم لا يسمعونه، فإذا سمعوا لم ينتصحوا، وإذا ما انتصحوا لم يبادروا إلى إصلاح الحال بإزالة أسباب الشكوى. وعندما تحولت الشكاوى إلى اعتراضات واكبها البطريرك بأن رفع صوته بالتحذير.. فلما تفاقمت الأمور خطا البطريرك خطوة أخرى في محاولة لملء الفراغ السياسي، إذ حوّل »مجلس المطارنة الموارنة« إلى ما يشبه المكتب السياسي لحزب غير قائم، عملياً، وإن كان موجوداً وفاعلاً ومؤثراً. لقد أعطى المعارضة رأساً معنوياً، يتمتع بحصانة ليست لأي طرف سياسي، ولصوته صدى يتجاوز قدرات المعارضة السياسية ومجالات حركتها. بل إن البيان الشهري للمطارنة الموارنة، برئاسة البطريرك وبتوجيهه، سرعان ما تحول إلى »مرشد« لعمل المعارضات المختلفة سياسياً. تجاوز »المجلس« مجاله الطبيعي إلى »الشأن العام«. وهكذا بات قيادة ضمنية ذات حصانة لا تملكها القيادات السياسية المعروفة… وصار بيانه الشهري أشبه بمقدمة للبلاغ الرقم واحد الذي قد يصدر في المقبل من الأيام.
وكان ذلك، مرة أخرى، على حساب الحكم كله، وبالتحديد على حساب رئيس الجمهورية.
صار المعارضون يتلقفون »البيان الشهري« وكأنه صادر عن »مديرية التوجيه السياسي«: يحدد الاعتراضات على مجريات الأمور، وينظم جدول أعمال للمعترضين، ويرسم إطاراً للتلاقي بين المعارضات من داخل الحكم ومن خارجه، مع تركيز دائم على أخطاء الممارسة السورية التي يتحمّل مسؤوليتها الحكم وعليه أن يدفع ثمنها.
وشكّل هذا البيان الشهري، بالتراكم، خطة سير ارتفعت فيه النبرة من الشكوى إلى الاحتجاج إلى الاعتراض الجدي، إلى استنفار القوى التي تتبناه للتجمع والانضواء في إطار سياسي يسعى جاهداً وعبر المعارضة لتقديم نفسه بوصفه الحكم البديل، المؤهل لانتشال البلاد من الوهدة التي أسقطها فيها الحكم بالاستناد إلى سوريا، حين كان »منسجماً« حتى لقد بدا ذلك الإطار »وكأنه أجمل من أن يكون حقيقة«، ثم حين تبدى الحكم برأسين متخاصمين ونهجين متعارضين وبرنامجين متضادين بحيث أنهك كل طرف الآخر حتى سقط الحكم في الفراغ… متسبباً بكشف سوريا وجعلها هدفاً مباشراً للسهام، من الداخل ومن الخارج، مسمومة وغير مسمومة.
بعد ذلك كانت الخطوة العملية الثانية: رعاية تجميع »المعارضة المسيحية« بتلاوينها المختلفة
والمتنوعة والمتعددة في إطار »قرنة شهوان«. ولإسقاط أي وهم حول علاقة بكركي بهذا التجمع فقد اختار البطريرك مطراناً مميزاً بدهائه وفصاحته ليكون »المنسق« و»المضيف« و»الراعي« حتى لا نقول »الرئيس« لهذا »الإطار الجديد« المعارض من داخل بكركي ولكن ليس باسمها.
اليوم وبعد سنتين أو يزيد على قيام قرنة شهوان تبدو بكركي كأنها المرجعية السياسية الأخطر في البلاد، حتى مع التزام البطريرك بألا يكون بشخصه أو بموقعه »القائد الفعلي«.
لم تعد بكركي محجاً للمتذمرين والناقمين ومن يرون في أنفسهم »مظلومين« من أحزاب المسيحية السياسية وقياداتها.
صار درج بكركي منصة يقف عليها كل يوم قيادات في الحكم وفي المعارضة وسياسيون طامحون تكاد تتمثل فيهم معظم الطوائف، وصارت منبراً »للنيابة العامة« السياسية ترافع عبرها بألسنة متنوعة ضد الحكم وأهله… بل وكثيراً ما وقف إلى هذا المنبر بعض أهل الحكم يوجهون من المكان ذي الحصانة وذي الجمهور انتقادات علنية إلى »الحكم« مظهرين فصاحة لا يملكها الرؤساء في الرد دفاعاً عن مواقعهم وعن ممارساتهم.
* * *
هل عادت »المارونية السياسية« أو أنها في طريق العودة إلى مركز القرار؟
إن بكركي هي اليوم »المرجعية« الوحيدة في البلاد التي يتلاقى فيها رجال الصف الأول من الحكام والمعارضين، مسيحيين ومسلمين.
ومع أنها لا تملك برنامجاً للحكم، ولا هي تصلح لأن تقدم إطاراً سياسياً للانقلابيين ممن يريدون خلع الحكم القائم، لا سيما وقد وفّر لهم التمديد بكل ما قدمه للخارج من ذرائع لتمويه التدخل الأجنبي، الإطار الجامع المموهة طبيعته السياسية.
.. إلا أن كل نمو أصاب بكركي إنما تمّ على حساب الحكم عموماً ورئاسة الجمهورية بالدرجة الأولى.
وليس تبدلاً في الشكل أن يضحي رئيس الجمهورية واحداً من زوّار بكركي التقليديين، هو الذي كان يقول وهو على رأس الجيش ثم من بعد على رأس الدولة إنه قطع عهداً على نفسه ألا يزور أية مرجعية دينية، ولو مرة في حياته.
إن ذهاب رئيس الجمهورية إلى بكركي، وهذا الرئيس تحديداً، دليل ضعف، وكلما تزايد عدد زياراته رأى فيها الناس مزيداً من الضعف والإملاق بل حتى ومن الإفلاس… كأنما ليستحصل مع »البركة« على رضى شعبي ما، بمحاولة طمس التعارض وتضييق الفاصل الذي لا يضيق بين السلطة و»الناس« ممثلين الآن ب»سيد بكركي«.
وإذا ما صار البطريرك زعيماً وصار الرئيس »رعية« فإن الدولة تكون مهددة في وجودها..
فليست بكركي هي البديل الصالح من رئاسة الجمهورية..
ولا نفترض أن عودة المارونية السياسية إلى سابق ازدهارها بالهيمنة المطلقة على »الدولة«، واعتبار نفسها الممثل الشرعي الوحيد للكيان ومن ثم لنظامه السياسي، هي بين الأهداف المثلى لسياسيين من طراز رفيق الحريري أو وليد جنبلاط، فضلاً عن سائر المسلمين الذين يطلبون مجد المعارضة من غير أن يخسروا أدوارهم في حكم »جمهورية الطائف« التي تدور الآن باحثة عن نظام يلائمها فلا تكاد تجد..
كذلك لا نفترض أن القرار 1559 يصلح ركيزة لدولة هدفها الأول والأخير العداء للمقاومة الوطنية (ولو إسلامية) وهذا لا يكون إلا لحساب إسرائيل، والعداء للفلسطينيين، وهذا أيضاً يصب في مصلحة إسرائيل، والعداء لسوريا وهذا مدخل إلى تدمير »الجمهورية« وليس الكيان فحسب، فما يخدم الإدارة الأميركية ومعها إسرائيل لا يمكن أن يكون في مصلحة اللبنانيين لا في حاضرهم ولا في مستقبلهم.
هذا دون أن نسقط من الحساب الأخطاء السياسية التي ارتكبتها الإدارة السورية للشأن اللبناني، على امتداد هذه التجربة الفريدة في بابها، والتي كان الأمل أن تكون »النموذج« الذي يحتذى في العلاقة بين دولتين متكاملتين في المصالح قبل التاريخ والجغرافيا فقصرت عن أن تكونه، وكادت تنقلب إلى الضد.
لكن أخطاء الآخرين لا تصلح لأن تكون أساساً لجمهورية جديدة، حتى وإن توهم البعض أنها قد تعيد الاعتبار إلى نظام ما قبل الطائف.
وهذا وهم نعتقد أن البطريرك صفير أذكى من أن يسقط في شباكه، وإن كنا نفترض أن بعض المعارضين يحاولون استثماره لتحسين المواقع، إن لم يكن في الحال ففي المستقبل.
ولكن القرار 1559 لا يصلح أساساً لقيام وطن، ومن ثم لقيام جمهورية، ولا يصلح خاصة برنامجاً للحكم في لبنان الذي ستظل سوريا تحيطه من الشرق ومن الشمال وملتصقة به في الحاضر وفي المستقبل، خيرها فيه الخير له، وشره فيه كل الشر عليها.
ولخير لبنان واللبنانيين أن تبقى المارونية السياسية في الماضي، فليس الرد على الخطأ السوري (ومن زيّنه وسوَّق له وروَّج وباع واشترى فاغتنى وصار اسماً في الأخبار) بارتكاب خطيئة الارتداد على السلم الأهلي والانتفاض على التسوية التي أنجبت اتفاق الطائف.
وبكركي التي كانت »في« الطائف، ومع الاتفاق، لا يمكن أن تأخذها الأوهام إلى القبول بالخروج منه أو عليه.
أما الأمر مع سوريا فمختلف جداً…
وأول خطوة للإصلاح أن يحضر رئيس الجمهورية وأن يشغل مكانه ودوره المعطل حالياً، لكي ينفتح الباب أمام الحل المرتجى للمعضلة التي تنذر بأن تتحول إلى متاهة يضيع فيها الجميع.