لكل طرف في مؤتمر الحوار الوطني رأيه وموقفه من المسائل المطروحة على الطاولة التي تجمعت فوقها قوافل من الريب والشكوك، بعضها قديم وإن بقي يسكن ذاكرة الحرب الأهلية، وبعضها الآخر من مواليد العام ثقيلِ الوطأة بالدم الذي أهدر فيه ظلماً وغيلة، والذي عنوانه استشهاد الرئيس رفيق الحريري.
رغبة في مساعدة المتحاورين، والجمهور الذي ينتظر فرجاً لا يجد الطريق إلينا، أستأذن في رواية واحدة من الوقائع المثيرة والخطيرة التي حفل بها مؤتمر الطائف قبل انبلاج فجر اتفاقه العتيد.
خلال إحدى جلسات النقاش، نشبت أزمة سوء فهم بين الراحل الكبير نصري المعلوف و»الموفد العربي« آنذاك الأخضر الإبراهيمي… وكان ان نجحت مساعي الرئيس المغدور رينيه معوض في جمع الرجلين إلى مائدة غداء، بحضور الشهود المرحوم بيار حلو، وسفير الجزائر في الرياض آنذاك عبد الكريم غريب وكاتب هذه السطور.
بعد تمهيد بالأسلوب الرقيق الذي اشتهر به رينيه معوض تم فتح موضوع الخلاف… واستأذن الأخضر الإبراهيمي في ان يعرض وجهة نظره أولاً، فقال مخاطباً نصري المعلوف:
يا أستاذ نصري، أنت محام قدير يشهد لك الجميع بالكفاءة المتميزة. وأنت من طبيعتك كمحام، ولأنك تريد بالتأكيد ان تربح »الدعوى«، تحرص على تحديد الأمور بما فيها التفصيلية منها بدقة شديدة: أين كان المجني عليه، وأين وقف الجاني، وماذا كان يرتدي الأول، ولون قميصه وسرواله، ومن أين تقدم الجاني وماذا كان يحمل في يده، وفي أي دقيقة بالضبط، ومن كان شهود الحال، وماذا جاء في افاداتهم تحديداً، وماذا جرى من حوار قبل الصدام، بحرفيته، حتى لو تضمن كلمات بذيئة…
ذلك هو واجبك، وتلك هي اصول مهنتك، ثم تلك هي معركتك التي تشكل لك تحدياً لا بد من ان تربحه. لذلك، فأنت تهتم بأدق التفاصيل وأتفهها، وبينها التوقيت ووصف المكان بالأشجار فيه وألوان أبواب البيوت ونوافذها…
توقف الأخضر الإبراهيمي لحظة، والكل يتابعه باهتمام، ثم استطرد فقال:
أما أنا، يا أستاذنا الكبير، فدبلوماسي، وهدفي يتناقض مع هدفك على طول الخط. ذلك ان الغموض هو أخطر أسلحة الدبلوماسي. إذا تم تحديد الأمور بالدقة التي تريدها، وتم توضيح التفاصيل، تجدد الاشتباك، وباتت مهمتي مستحيلة. ان بحري هو الغموض، وأنت تريد بمهنيتك ان تجفف بحري وتحرمني من حرية الحركة. لذلك، فليس ثمة من خلاف بيننا إنما هو »تناقض مهني« بحت.
واقتنع المحامي الكبير الذي اقترن اسمه بربح الدعاوى دائماً، وأُعجب »الشهود« ببراعة الأخضر في تبرير موقفه، وطُويت صفحة الخلاف… العارض.
لعل هذه »الحكاية« المستعادة من تراث اتفاق الطائف، الذي كان رفيق الحريري بين مهندسيه، وان ظل دوره »داخلياً« ومحاطاً بغلالة من »الغموض« الضروري للنجاح: فهو حامل مفتاح السر، يعرف الجميعَ ويعرفونه، ولم يكن بحاجة إلى صفة رسمية كي يقوم بواجبه (الوطني القومي) في تأمين شروط النجاح للمؤتمر المعلقة عليه الآمال بإنهاء الحرب الأهلية في لبنان.
وكان الطائف انتصاراً على ما كان آنذاك في حكم المستحيل… وكان بين الأسلحة الفعالة في تأمين الإجماع قدر من »الغموض البناء« الذي أعطى »البديهيات« المختلف عليها موقعها في »الدستور الجديد«.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان