»لا نستطيع بناء دولة ديموقراطية على هذا الدم…«.
بهذه الكلمات لخص بعض النواب الروس الذين كانوا في عاصمة الشيشان، غروزني، الموقف في تلك المنطقة من القوقاز التي تعيش ومعها روسيا »مأساة وطنية«، على حد وصف وزير خارجية يلتسين »الليبرالي« اندريه كوزيريف.
اما واشنطن التي »تتابع باهتمام وبشيء من القلق« الموقف في بلاد الشيشان، فقد اختزل مستشار الأمن القومي للرئيس الاميركي انطوني ليك »عواطفها« بانتقاد »الاساليب العسكرية الروسية«.
هذا في حين عبرت اكثرية الشعب الروسي، كما دلت بعض استطلاعات الرأي المنظمة بمعرفة السلطة، عن عدم ثقتها بالرئيس يلتسين (65 في المئة).
التاريخ يعيد نفسه ولكن بشكل مأساوي هنا وليس كاريكاتوريا.
فقبل سنوات قليلة عاشت روسيا »مأساة وطنية« حقيقية، حين امر يلتسين دباباته بقصف البرلمان في قلب موسكو، حيث كان يعتصم النواب المعترضون على سياسة الالتحاق التي اعتمدها…
لكن واشنطن التي استخدمت راية حقوق الانسان في جملة ما استخدمت من اسلحة ضد »اضطهاد« اليهود في الاتحاد السوفياتي (السابق؟!) ومنعهم من الالتحاق بجيش الدفاع الاسرائيلي لقتل الفلسطينيين واللبنانيين وسائر العرب .
واشنطن التي تقول بالتعددية السياسية وبالديموقراطية وبالحريات الشخصية، لم تجد في قصف البرلمان الروسي، بالمدافع اعتداء على الديموقراطية، بل كانت ترى في البرلمان المنتخب تجسيدا للدكتاتورية، بينما باركت ديموقراطية الدبابات ورمزها المقدس بوريس يلتسين.
يومها لم يرفع احد في واشنطن صوته بالاعتراض، ولا حتى على »الاساليب العسكرية« التي اعتمدها يلتسين لتوكيد إيمانه العميق بالديموقراطية.
فبديهي الا تهتم واشنطن الآن لما يصيب الشيشان طالما انها لم تتوقف كثيرا امام »المأساة الوطنية« العظمى وهي تضرب روسيا في قلبها موسكو، بل رأت خلافا لاي منطق انه على دماء الروسي يمكن فعلا ان تقوم ديمقوراطية يلتسينية!.
ومن باب اولى الا ترى واشنطن خطرا على الديموقراطية في ما يصيب الفلسطينيين، مثلا، او اللبنانيين نتيجة لقصف المدافع الاسرائيلية، او للقنص ببنادق المستوطنين الاسرائيليين، فالديموقراطية »موديلات«: للعالم المتقدم ديموقراطية الانتخاب والاحزاب والمؤسسات و»صوت واحد لرجل واحد«، وللعالم المتخلف ديموقراطية من نوع مختلف »صوت واحد لحاكم واحد«، او »صوت واحد لشعب واحد يختزله ويلغيه دكتاتور واحد« بشرط ان يكون مواليا لواشنطن ومنفذا امينا لمصالحها.
وليس ذنب واشنطن ان يكون جيشها ابرع واسرع واقدر على تحقيق الديموقراطية في هايتي، (وقبلها في باناما)، مما اثبت الجيش الروسي بقيادة »اولئك الذين يلبسون ثياب الجنرالات«، في مدينة غروزني الشيشانية.
الديموقراطية ليست حقا لكل البشر.
انها »هبة« او »منحة« تقدمها واشنطن للملتحقين بها، من المنفضين عن الايديولوجيات والعقائد والاحزاب، والمنتفضين على الدكتاتوريات المحلية، الوطنية او القومية او الامنية، لكي ينالوا سبق الشرف في دخول جنة »النظام العالمي الجديد« وعاصمة الديموقراطية الجديدة: واشنطن.
وطالما ان الديموقراطية في واشنطن بخير فإن ذلك الخير يكفي لكي يعم الدنيا بأسرها، فلماذا تعاني الشعوب مجددا من اجل بناء الديموقراطية في »اوطانها«، التي اصبحت اشبه بالضواحي لعاصمة الكون الديموقراطي؟!.
على ان للتاريخ منطقا آخر مختلفا.
واغلب الظن ان بحور الدم التي سالت وتسيل في بلاد الشيشان لن تقرب فقط اجل »النظام الديموقراطي« في روسيا، بل هي ستفضح اكثر فأكثر طبيعة الديموقراطية الاميركية ذاتها.
ولعل دم الفقراء الشيشانيين يؤكد ان سقوط الدكتاتورية السوفياتية لا يبرر ولا يزكي دكتاتورية »النظام العالمي الجديد« بالقيادة الاميركية، بل هو يفتح الباب لمحاسبتها عما كان في الماضي وعما يكون الآن في اربع رياح الارض.
طلال سلمان
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان