أخيراً سيجد العرب طريقهم إلى العصر، ولن يبقوا خارج جنته الموعودة،
فلقد تمّ »تنسيب« منطقتنا التي تحمل الآن اسمها الديموقراطي الحديث، أي »الشرق الأوسط«، إلى معسكر الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان الذي تقوده ديموقراطياً الولايات المتحدة الأميركية، وبمنصب »جنرال فوق القمة«.
وكان على العرب أن ينتظروا مأساة يوغوسلافيا، بصربها وألبانها، حتى تهلّ عليهم بشائر الديموقراطية وتهب عليهم رياحها السموم، عبر القرار الذي اتخذته القيادة الأميركية لذلك الحلف القيم على مكارم الأخلاق، والذي نصَّبته الآن بعلمها وبجيوشها وحاملات الطائرات والقاذفات البعيدة المدى و»الأباتشي« الخطيرة وصياً على الدول والشعوب جميعا، لا سيما منها وفيها الأقليات وحقوق الإنسان.
بعد الاستعمار القديم وفشله في تهذيبنا وتعويدنا قص أظافرنا وإطالة شعرنا وحفظ أناشيد الديموقراطية وممارسة طقوسها المعقدة، جاء الاستعمار الجديد يتقدمه شعار »دعني أعمل، دعني أمر إلى حيث أشاء«، وقرر أن المنهج التقليدي كان خاطئا، وأن »المعلم« العجوز كان خائباً وفظاً غليظ القلب، وأن أسلوبه هو الأميركي مختلف جداً، عصري جداً، متطور جداً، وحذرنا من أننا إذا لم ندخل في جنته فسيأكلنا الدب الأحمر الآتي من قلب الثلج الروسي المخيف، والمصاب بالتصلب الإيديولوجي والذي يعمل لمصلحة الشيطان الرجيم ويعتبر الدين أفيون الشعوب..
ولأن رؤوسنا يابسة، وقدرتنا على الاستيعاب محدودة، فقد اتفق الاستعماران الجديد والقديم على أن يولجا بتدريسنا المعلم الأكبر الأكبر الذي ابتدع فأضاف إلى الديموقراطية القيم السامية للعنصرية،
وهكذا تعهدتنا في العقود القليلة الماضية إسرائيل،
وكان هذا »المعلم« رائداً فعلاً، ولعلهم الآن في كوسوفو خاصة وفي يوغوسلافيا وما جاورها عامة، يطبقون نظرياته ويحققون مبادئه المبتدعة للديموقراطية الحديثة: ان في التطهير العرقي، أو في تأمين الانصهار بين الشعوب عن طريق خلط المقيم بالمهجَّر، والمقتلع من أرضه بالمقتلعة دولته، وضرب مخططات الفتن الطائفية بإخراج الجميع من أديانهم!
الآن، وعشية الألفية الثالثة، كان لا بد من إضفاء مزيد من العصرنة والحداثة على المفهوم الإغريقي القديم للديموقراطية، وهكذا عهدوا بها الى أرقى المعاهد المتخصصة بهذا العلم الإنساني الخطير: حلف شمالي الأطلسي بقيادته الأميركية المشهورة بمستواها الأخلاقي الرفيع.
ولقد أراد هذا الحلف، الذي يبزّ في أعماله الإنسانية الصليب الأحمر ومنظمات »أطباء العالم« و»أطباء بلا حدود«، ووكالة غوث اللاجئين، تكريمنا فجعلنا أحد عناوين احتفاله بعيد ميلاده الخمسين، وقدم لنا هذه المكافأة القيمة أي إدخالنا في نطاق عملياته اعزازا وتقديرا لموقعنا منه.
لقد انتهت الشرعية الدولية بمؤسساتها كافة، هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، والأمين العام حامل الأختام الذي تقلصت مهماته الشكلية حتى كادت تنعدم… حتى الشكل لم يعد ضروريا!
وأعلنت نهاية التاريخ، أي نهاية الشعوب،
صار المتمرد إما »إرهابيا« أو »طاغية« إذا ما كان في موقع الحاكم العنيد، والفائز بانتخابات شرعية لا مطعن في ديموقراطيتها،
اندثر الاتحاد السوفياتي ولم تعد روسيا إلى الحياة،
وسقط المعسكر الاشتراكي لكن الدول التي كانت فيه لم تعد دولاً، وصار نموذجها التشيكي مجرد فقيه يفتي فيبرر للطغيان الأميركي حقه في السيادة على العالم باسم الديموقراطية وتحت لافتة حقوق الإنسان.
لم تعد الولايات المتحدة الأميركية مضطرة لأن تتحرك مكشوفة، فترسل طائراتها ومن دون غطاء لضرب مصنع دواء في الخرطوم أو قافلة تموين في أفغانستان،
ولم تعد مضطرة لأن تأخذ الإذن، ولو شكلياً، من مؤسسة دولية يحتشد فيها طابور العجزة من الفقراء، الأمم المتحدة، أو من مجلس أمن قد تلقى فيه معارضة، ولو شكلية، أو تعطيلاً بحق النقض، من طرف من لا يملكون القدرة على صدها أو اعتراض حركتها على الأرض أو في البحر أو في السماوات السبع!
لقد أعلن كلينتون، أمس، سقوط أوروبا، بعد التحقق من »موت« روسيا،
لم ينج من السقوط إلا صربيا أو يوغوسلافيا وميلوسيفيتش!
إنها الديموقراطية بقوة الاحتلال والتدمير (كما إسرائيل)،
أو الديموقراطية بالقدرة على الاحتلال والتدمير، كما في النموذج الاميركي لعلاج مشكلة يوغوسلافيا.
إنها ديموقراطية الطائرات الشبح والأباتشي،
من التحالف الدفاعي ضد المعسكر الاشتراكي الذي كان يندفع بروح هجومية كاسحة في الستينات وبداية السبعينات، الى التحالف الهجومي ضد دول صغرى ومنظمات تضم مجموعات بل وضد أفراد.
كلما تصاغر الخصم تعاظمت قوة النيران لسحقه بحيث يكون عبرة لمَن يعتبر،
الآن وبرعاية المعلمين الأعظمين إسرائيل والحلف الأطلسي ستتسارع الخطوات العربية على طريق الديموقراطية!!
أما خطوات الحلف فهي ترج الأرض العربية، وتقلق العرب جميعا، محكومين وحكاما، منذ أول غارة على يوغوسلافيا.
وإذا كان العراق هدفا دائما فإن السؤال: مَن سيكون هدف الضربة الديموقراطية الثانية، عربياً؟!]]