بين «خصوصيات» الشعب اللبناني العظيم ولعه الشديد بالمنافسة التي يفضلها «مناكفة» أو «مكايدة»… إذ لا يمتعه شيء أكثر من أن يغيظ جاره أو يتغلب على أخيه أو يقهر صهره بسلاح الديموقراطية الذي لا يخطئ!
وهكذا فإنه قد ألقى خلف ظهره كل ما نشر وأذيع وروّج وتمّ تعميمه وتضخيمه من أخبار عن صواريخ سكود الروسية أو ما هو أضخم منها وأطول وأفعل، وكيف أمكن إدخالها إلى المقاومة في لبنان خلسة، على أجنحة الحمام الزاجل أو ربما عبر النسائم الربيعية…
كذلك فإنه قد تجاوز أخبار المصادر الموثوقة ودوائر الاستخبارات التي لا تخفى عليها خافية مما يتصل بتخصيب اليورانيوم واحتمال أن تدخل إيران النادي النووي فتكسر الاحتكار الإسرائيلي لسلاح الإبادة الجماعية (وهي الاستثمار الأعظم للصهيونية وكيانها الذي لا يمكن أن يقوم ويستمر إلا بإبادة فلسطين، أرضاً وشعباً وقضية…).
ثم إنه قفز من فوق الأخبار المنذرة بويلات جديدة سيتعرض لها شعب العراق تحت الاحتلال، بعدما قصرت الديموقراطية المحمولة على الدبابات الأميركية عن حماية «الائتلافات» و«المكونات» السياسية من حمى الطائفية وسرطان المذهبية…
… هل بعد هذا كله عشق أشد للديموقراطية وتعلق أعظم بحق الاختلاف وتباين الآراء والتعددية التي من خشبها المقدس تصطنع توابيت الوحدة الوطنية؟!
على هذه المبادئ المباركة جرت الجولة الثانية من الانتخابات البلدية، وهي كانت «بصفارين»: الأولى في بيروت حيث حسمت الأغلبية الطائفية المعركة من قبل أن تقع، فامتنع الناخبون عن تجشم عناء الانتقال إلى مراكز الاقتراع تاركين للتزكية أن تثبّت إيمانهم العميق بالديموقراطية، والثانية في البقاع حيث يتنافس غربه مع شماله على المرتبة الأولى في تأكيد الحضور الفاعل لنصرة «قيادته» في بيروت.
وكالعادة، غابت المحاسبة عن «الصناديق»، فليس لائقاً أن تحمل الديموقراطية كلفة الأخطاء والخطايا، القصور والتقصير في تأمين الخدمات البلدية الحيوية: ماذا يهم أن تكون بيروت قد تحولت إلى مرأب عظيم لمئات الألوف من السيارات من كل حجم وجنسية ولون، بحيث يكاد يستحيل السير في شوارعها الضيقة أصلاً (والتي ستصير أضيق نتيجة الغلاء الفاحش لأرضها المباركة حيث بات سعر الذراع فيها ينافس مثيله في لندن وباريس وحتى نيويورك؟).
وماذا يهم انقطاع المياه عن البيوت بعدما نضبت الآبار الطبيعية فملأتها مياه البحر، وصار سكان بيروت يشترون مياه الشرب معبأة في زجاجات تكاد تعادل في أثمانها الكحول والمشروبات الروحية ذات الإطار المذهّب؟!
وماذا لو اضطر السكان إلى دفع ثلاث فواتير كهرباء، الأولى للدولة، والثانية لصاحب المولد، والثالثة لمن يمنحهم ساعات من المتعة مع البرامج التلفزيونية التركية المدبلجة أو مع أفلام الجنس التي لا يحتاج مشاهدها إلى الترجمة، إذ الحقائق عارية وعلى الطبيعة؟
وأي عيب في أن يشتري أهل بقاع الخير المياه للشرب أو لري الحديقة كما للغسيل أو سائر الاحتياجات؟! صحيح أن بعض أكبر أنهار لبنان كانت تنبع في أرض البقاع، وكانت تجري بامتداد السهل حتى البحر في الجنوب، إلا العاصي الذي ينحرف شمالاً فإلى شمال الشمال حتى الإسكندرون… لكن ذلك الزمن قد انتهى، ليس لأن الطبيعة صارت أبخل، بل لأن الشعب اللبناني العظيم، وكل بحسب نفوذه وغطائه السياسي، قد حفر أبناؤه من الآبار ما استنفد المياه المخزونة، أو أنه حرف المجرى الطبيعي للنهر ليأخذ منه مباشرة نصيبه من مياه لبنان الأخضر، فنضبت المياه عند المنبع، تقريباً، وصارت مجاري الأنهار أطلالاً وقنوات للنفايات ومصبات للمجارير؟!
مَن يجرؤ على محاسبة المسؤولين عن مصالح المياه والكهرباء وسائر المرافق العامة؟! أليست هذه ملكيات عامة لكل مواطن فيها نصيب؟! طيب… وماذا في الأمر لو أن قلة من المواطنين النافذين «شفطت» من الكثرة؟! أليست هذه هي القاعدة المتبعة في مختلف الإدارات والمصالح والمؤسسات العامة؟!
أما المخاتير فهم أحسن حالاً، لا سيما في المدن، دخلاً ووجاهة وعزّاً، إذ لا يكون المواطن أحداً إلا بشهادتهم وأختامهم… وهات يا خال على كل ختم وأوراق الأحوال الشخصية وما أوسعها باباً للرزق!
.. وإذا كانت البلدية من فضّة فالمخترة من ذهب خالص… والله هو العاطي الأكرم!
[ [ [
كيف يمكن للديموقراطية أن تنبت وتسحق فروعها وتعطي أثماراً شهية، في بلد تحكمه التوازنات الطائفية والمذهبية، حيث يمكن تمويه المصالح وتحوير دلالاتها بالتلطي خلف أهازيج الوحدة الوطنية والتوافق والرفق بالأقليات؟
وكيف يمكن أن تقوم في مثل هذا البلد مؤسسات «مدنية» على قواعد من الديموقراطية إذا كانت الطبقة السياسية قد نجحت في تحويل «الشعب» إلى قطعان طائفية ومذهبية يمكن استفزازها واستعداء بعضها على بعض ببساطة ودون عظيم عناء، فتندفع هائجة مائجة تدوس على مصالحها المباشرة وحقوقها الطبيعية في ما كان «وطناً» وتحول إلى إقطاعيات ومحميات «مقدسة»…
من يستذكر إسرائيل وخطرها على المصير في مناخ كهذا؟!
من يهتم بالاختراقات الخطرة للأجهزة الأمنية عبر شبكة الاتصالات؟! من يهتم للمراقبة الأجنبية للحدود؟! من يهتم بصياغة القرارات الدولية التي استصدرت بعد الحروب الإسرائيلية على لبنان، وفي كل منها ما يوسع مساحة الاختراق الإسرائيلي ويشرعنه، براً وبحراً وجواً؟!
خلاصة القول: إن الديموقراطية والطائفية خطان متوازيان لا يلتقيان، مهما لجأ المتحذلقون إلى ابتداع الصيغ التلفيقية التي تؤكد نجاح الشعب اللبناني العظيم في تأمين التلاقي بينهما عبر مواويل الوحدة الوطنية وزجليات الأخوة في الله الواحد وإن اختلفت الأديان!
و«الوطن» الذي خرج من الانتخابات النيابية «أوطاناً عدة» لشعوب متعددة الولاءات لن تعيد توحيده انتخابات بلدية لا قيمة فعلية لها في غياب «الدولة».
فالدولة شرط وجود لهذا الكيان الذي استولد مشوهاً.
وواضح أن ثمة قراراً كبيراً بمنع قيام الدولة، وعلى هذا القرار يتلاقى أهل الطبقة السياسية مع الخارج، فتصبح البلاد بلا داخل، وتتحول السياسة إلى مصالح ومنافع بين ضماناتها البديهية الانقسامات الطائفية والمذهبية التي لا بأس من إهاجتها أحياناً إلى حد الاشتباك الدموي، وبعده يمكن تثبيت الفتنة في الدستور بذريعة «حماية حقوق الطوائف».
أليست نكتة سمجة، والحال هذه، أن يطالب مكابر بالنسبية؟! أو يتصدى بعض المهووسين للمطالبة بحق الانتخاب للفتية الذين بلغوا الثامنة عشرة من أعمارهم؟!
وتسأل بعد ذلك عن الديموقراطية؟!
إسأل أولاً عن «المواطن» وعن «الدولة»، ثم بعد ذلك يمكن الكلام في «التفاصيل».
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2025 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان