ما تشهده الجزائر، بعاصمتها ومدنها وأريافها كافة، هو أمر محزن أكثر مما هو مخز. انها محاولة مستميتة لإنقاذ شرف المليون شهيد الذين ضحوا بأرواحهم رخيصة من اجل أن تستعيد بلادهم هويتها الوطنية والقومية وتتخلص من ربقة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي استطال لأكثر من مائة وخمسين عاماً واجهها شعبها العظيم بدمائه وقدراته كافة حتى تم الانتصار بالتحرير.
انها ارادة شعب يشهد له تاريخه المضيء بأنه لا يقبل الضيم والاستعباد والقهر، وان صدرت عن الرئيس الذي “اكتشفه” الرئيس الاسبق هواري بومدين وعينه وزيراً للخارجية، وهو فتى بالكاد بلغ مرحلة الوعي بما يجري حوله، ليكون عينه واذنه والناطق باسمه في المؤتمرات، وفي عواصم الدول التي كان يكلف بزيارته. وبعد رحيل بومدين “غضب ” عليه الوريث، فأمضى سنوات كلاجئ سياسي في بعض امارات الخليج العربي.
ثم كانت صفقة عقدها بعض ورثة بومدين من كبار ضباط الجيش برعاية فرنسية ـ عربية ادت إلى “تعيين” عبد العزيز بوتفليقة رئيساً للدولة، في اعقاب المواجهة المسلحة مع الاسلاميين الذين احتلوا شوارع الجزائر لفترة طويلة، قبل ضربهم تمهيداً لصفقة اعادة البومدينية إلى سدة الحكم بشخص عبد العزيز بوتفليقة، قبل حوالي عشرين سنة.
في 22 تشرين الثاني 1989، وبعد الاحتفال بعيد الاستقلال في السراي الحكومي المؤقتة، وزارة الداخلية، شهد لبنان حدثاً مروعاً: تم تفجير موكب الرئيس المنتخب حديثاً رينيه معوض خلال عودته إلى المقر الرئاسي المؤقت في الرملة البيضاء..
وكان طبيعياً أن اقصد زغرتا للمشاركة في وداع الرئيس الشهيد الذي لم يمتع بالشباب، رينيه معوض في مسقط رأسه.
هناك التقيت بأخطر دبلوماسي عربي الاخضر الابراهيمي، مبدع اتفاق الطائف بنسخته الاخيرة. وبعد الانتهاء من واجب التعزية باغتني “سي الاخضر” بالسؤال: هل تذهب معي إلى الجزائر.. اليوم؟
وقبل أن استفيق من “الصدمة” أكمل يقول: لقد ارسلت لي السعودية طائرة خاصة، وانا وحدي، واريد التوجه إلى بلادي مستغلاً هذه المكرمة.. فهلا تذهب معي.. سيكون لدينا الكثير من الوقت لنستعرض هموم هذه الامة!
وافقت طبعاً على هذا العرض غير القابل للرفض، فقصدنا الطائرة الخاصة، وقد قررت أن العب دور “المستنطق” في استجواب هذا الدبلوماسي المتحدر من اروقة سياسية والذي يعرف كل شيء عن كل البلاد، شرقاً وغرباً وبين بين.
كانت رحلة ممتعة فلم نشعر بمرور وقت الطيران ـ وحين بلغنا العاصمة، الجزائر، اخذني “سي الاخضر” إلى فندق الضيافة التابع لوزارة الخارجية “الرواق” فانزلني فيه، ووفر لي سيارة بمرافق لأتنقل فيها، ومعي من يشرح لي المواقع ذات التاريخ والشوارع والميادين وحي القصبة الشعبي، الذي كان قلعة المقاومة ومنبع التظاهرات، ومرجعهم ومراكز الطوارئ لإسعاف الجرحى منهم.
في اليوم التالي، وخلال تجوالنا في الجزائر ـ العاصمة، عند الغروب، فوجئت بأعداد الشباب الذين يقفون وقد اسندوا ظهورهم الجدران، في الساحة الواسعة. سألت مرافقي فقال من خلال ابتسامة ساخرة: الم تسمع بهم؟ انهم “الحائطيون”. انهم مجاميع من الشباب الجديد الذين لا يجدون فرص عمل تكفيهم، يتجمعون ـ كما ترى ـ في الساحات، ويسندون ظهورهم إلى الجدار.. او انهم مثلي، يتناوبون على النوم في البيت بالدور، لان المكان لا يتسع للجميع..
بعد يومين أمن لي “السي الاخضر” موعداً للقاء الرئيس الجزائري آنذاك الشاذلي بن جديد… وكان متحفظاً في البداية، ثم انطلق يشكو الهموم الثقيلة التي يعاني منها.
في طريق العودة سألت مرافقي محمد: الا تدلني إلى بيتك؟ خذني اليه. اريد أن اتعرف إلى عائلتك..
ابتسم الرجل، وقال برنة حزن: لا أستطيع. اننا ثمانية اشقاء مع الاهل. والبيت لا يتسع لكي ننام جميعاً، وفي الوقت الطبيعي فيه. لذا فنحن ننام مداورة، البعض ينام، والبعض الآخر يخرج إلى الشوارع والساحات، والمقاهي لمن يستطيع، حتى تنتهي “مناوبتهم” فيعودون إلى البيت ليناموا ويخرج بعض اخوتهم إلى الشارع فيمضون بعض ساعات الليل حتى الصباح فيرجعون ليناموا.
هذه صورة مقربة عن احوال الجزائريين الذين لا يجدون وظائف او اعمالاً تدر عليهم الرزق، قبل اكثر من عشرين عاماً..
الصورة الثانية اكثر قسوة وإيلاما، وذلك عندما خرج مئات الالوف من الجزائريين لاستقبال الرئيس الفرنس جاك شيراك، وهم يرفعون اياديهم، كمن يستسلم صارخين: فيزا فيزا..
وكان المشهد موجعاً: أبناء وأحفاد شهداء ثورة الاستقلال في الجزائر يستقبلون رئيس الدولة الاستعمارية التي ألغت هويتهم ولغتهم، ويطالبونه بتسهيل ذهابهم إلى فرنسا لكي يذهبوا اليها فيعملوا ليطعموا عيالهم.. بل ليعيشوا!
اليوم، ها هو شعب الجزائر العظيم ينزل إلى شوارع العاصمة والمدن ومراكز الاطراف، عرباً وبربراً، شباباً وصبايا بينهم نجمة معركة التحرير جميلة بوحيرد، يطالبون الرئيس الذي يرفض الخروج من القصر، حتى بعد تمديد ولايته اربع مرات من قبل بالتنحي، والسماح للضوء بأن يدخل إلى الجزائر مرة أخرى..
وطني لو شُغِلتُ بالخُلدِ عنّه / نازعتني إليه في الخُلدِ نَفسي