رفضت الاستجابة إلى التماس تقدّم به بعض الأهل والخلان. التمسوا مني البحث عن عذر أتعلل به يمنعني من قضاء أمسية قاهرية مع شلة ضمت أصدقاء وصديقات وصلت للتو من لبنان. خافوا أن يأتي الزوار ومعهم فيروس كورونا اللعين فينتقل ليمسك بي واثقا من أن الأيام الطويلة التي قضيتها مؤخرا في أحضان انفلوانزا متوحشة لا شك أضعفت مناعتي وتركتني فريسة سهلة وجاهزة ليفترسها فيروس صيني متعطش لمزيد من دماء شرق أوسطية. لم يدرك هذا النفر من الأهل والخلان أن لا فيروس كورونا ولا أي كائن آخر مفترس مثله كان يمكن أن يحرمني من فرصة الاستماع إلى بعض المطروح من أفكار على موائد الحوارات البيروتية في هذه الأيام العصيبة. أو يحرمني من فرصة اختبار بعض أفكاري وظنوني حول جملة قضايا مثارة في الشرق الأوسط وحوله، أكثرها صار يهدد بالفعل استقرار، وربما بقاء، دول في المنطقة وبعضها نابع مباشرة من أزمة شديدة التعقيد تلف النظام الدولي منذ ثلاثة عقود.
ترن في أذني مرارا منذ أن سمعت الرئيس فلاديمير بوتين ينطق بها في أحد لقاءاته العامة. يومها ألقي بلائمة الكوارث التي تعصف بالعالم على ما أسماه بالفوضى الدولية. وجدت نفسي على الفور متفقا معه ومعجبا بصراحته رغم اعتراضاتي العديدة على أساليب يستخدمها لتذليل صعوبات الانتقال من مرحلتين في التاريخ السياسي لروسيا شديدتي التعقيد، إحداهما سوفييتية صارمة الانضباط والأخرى متخبطة وعارمة الفوضى. لا شك أن الرئيس بوتين حقق للروس في نهاية الأمر استقرارا وأنقذهم من كارثة كان يمكن أن تكون دموية لا عهد للروس بمثلها ولا حتى أثناء الثورة البلشفية. يُهمني على كل حال ما أسهم به خيرا أو شرا على الوضع الدولي وليس ما فعله على الصعيد الداخلي في بلده.
عندما يلقي الرئيس بوتين باللائمة على الفوضى الدولية فهو في الحقيقة يعترف بنصيب له بين الأطراف المتسببة في هذه الفوضى باعتباره قضى عشرين عاما رئيسا أو شبه رئيس لإحدى الدول الكبرى المسؤولة عن توفير النظام والسلام في النظام الدولي. هنا إن شئنا المحاسبة ففي الغالب سنجد روسيا البوتنية شريكة في مسؤولية الفشل في وقف الفوضى فسجلها في التدخل في الشؤون الداخلية لدول أوروبا وفي الولايات المتحدة كما اتضح مؤخرا كاشف لدورها في إثارة عدم الاستقرار. أظن أننا سوف نجد الصين بريئة إلى حد كبير إذ أنها تعمدت أن يكون صعودها إلى القمة الدولية متدرجا. تعمدت في معظم هذه المرحلة إعفاء نفسها من أي مسؤولية دولية وبالفعل لم تبدأ إلا مؤخرا المساهمة في أعمال مؤسسات حفظ السلام وشغل مناصب كبرى في الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.
شهدت مرحلة الفوضى الدولية كما يتصورها الرئيس بوتين ونتصورها تطورات لمست جوهر الدور الغربي في تسيير النظام الدولي وتوجيهه. ففي هذه المرحلة حاولت الولايات المتحدة فرض نفسها قطبا اوحَد في النظام الدولي فورا في أعقاب الانفراط السوفييتي وسقوط روسيا الشيوعية. غير خاف على أحد وقتها ولا بعدها أن السلوك السياسي الأمريكي كان يُنذر بمرحلة من الفوضى سوف تمتد وتتفاقم آثارها مع استمرار النظام الدولي أحادي القطبية. أنا شخصيا أحد المقتنعين بأن الشرق الأوسط كان أول وأهم ضحايا هذه المرحلة سواء ابتداء من غزو أفغانستان بقوى إرهابية أعقبه الغزو بتحالف قوى غربية، وانتهاء بظهور أحد أهم رموز الفوضى الدولية وأنشط صانعيها، وأقصد ظهور دونالد ترامب مرشحا لرئاسة الجمهورية الأمريكية وقائدا لحركة قومية شعبوية هدفها تفكيك المؤسسات الديموقراطية القائمة. كنا وما نزال شهودا على أكبر عملية تفكيك للحلف الغربي، يقوم بهذه العملية طرفان، أمريكا الترامبية أحدهما وروسيا البوتينية ثانيهما. تلاقت أهدافهما بغير تعمد أو تخطيط مسبق. النتيجة كما نراها الآن تجاوزت أهداف القوميين الجدد لتصيب بالدمار المحتمل الغرب بمعناه الأيديولوجي والحضاري الذي تعرفنا عليه من خلال حروب صليبية طويلة الأجل واستعمار “أوروبي” أطول أجلا وتبعية لأمريكا متواصلة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
من وجهة نظر موسكو البوتينية وبكين الممثلة للحزب الشيوعي الصيني يبدو الغرب في وضع انحدار ولا أقول وضع انهيار أو استعداد للرحيل. إنه الوضع غير المثالي لقوتين كبريين مثل الصين وروسيا تسعيان لاحتلال مكاني القطبين الثاني والثالث في نظام دولي جديد متعدد الأقطاب. صحيح أن هدفا تحقق وهو إضعاف الغرب الذي تقوده أمريكا وبالفعل ضعفت أمريكا كقوة أعظم ونموذجها الديموقراطي ولكن لم تحسب جميع الأطراف أن الضعف الأمريكي سوف يتفاقم ويصل إلى هذا الحد، حتى أصبح في حكم المستحيل تقريبا إقامة نظام دولي جديد مستقر ومتوازن ومستند إلى دعائم قوة حقيقية. بمعنى آخر ظهرت صعوبة لم تكن في الحسبان، وهي أن القطب الأمريكي هو الآن أضعف من أن يستطيع وحده أو مع الصين وروسيا وقف الفوضى الدولية الضاربة أطنابها في كل انحاء المعمورة.
هنا تكمن شكوى الرئيس فلاديمير بوتين من خطورة وأهمية الفوضى الدولية الراهنة. روسيا وحدها لم تتمكن خلال حوالي عشرين عاما من ترتيب كل بيوت جوارها كما كان يحلم الرئيس بوتين أثناء تنفيذ عملية القوقاز التي استعادت إلى موسكو ولاء مسلمي الإقليم. الصين وحدها لم تتمكن خلال سبعين عاما من تهدئة شعب الإيغور وغيره من شعوب الأقليات الإثنية والدينية العاصية. وهي الآن تئن، وربما استمر أنينها لمدة طويلة، نتيجة الضربات الموجعة التي تلقتها أثناء حملة فيروس الكورونا. وقد ثبت قطعيا أنه ناشئ في داخل الصين.
أخشى أن أحدا لن يجد في الوقت متسعا للأخذ بنصيحة عالم السياسة المتميز روبرت كروجر. ينصح هذا المؤرخ المتزن بأن لا حل لمشكلة الفوضى الدولية إلا بالعودة إلى نظام القطبين. أنى لنا الآن من قطبين متعادلي القوة ومتشعبي النفوذ وحائزين على هيمنة واسعة على مصادر وأفاق علوم وأساليب الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الأحدث، ليتسنى لزعمائهما إقامة نظام دولي قادر على وقف الفوضى وإشاعة الأمن.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق