حين أطلق البطريرك الماروني بشارة الراعي صرخة التحذير من مخاطر تشقق الكيانات السياسية في المشرق العربي وسقوطها في وهدة الحرب الأهلية، لاغية الدول التي تشكّل أنظمتها شرط حياتها، فإنه كان يعبّر عن مخاوف حقيقية تعيشها شعوب هذه المنطقة راهناً، ويعرف الفاتيكان ـ بحكم قدراته غير المحدودة ـ الكثير عمّا يدبّر لمستقبلها في عواصم القرار.
لم يكن البطريرك الراعي يشير إلى قلق المسيحيين وحدهم، والذي قد يدفعهم، بقوة التحريض أو التهديد أو الإغراء، إلى مغادرة أوطانهم التي كانوا فيها منذ فجر التاريخ، بل هو طرح مجموعة من المخاوف المصيرية التي تجتاح المكوّنات المتعددة لهذه المنطقة من العالم، والتي تتهدد كياناتها السياسية بالتشطير أو بالاندثار في غمرة حروب أهلية لها من يخطّط ومن يدبّر ثم من يستفيد من نتائجها المدمرة التي ستتركها مفتوحة أمام كل طامع في خيراتها… من دون أن ننسى الفوائد العظيمة التي سيجنيها العدو الإسرائيلي، والتي ستجعله السيد المطلق، تحت مظلة الهيمنة الأميركية الشاملة.
وإذا كانت هواجس البطريرك الماروني تتصل، أساساً، بالرعايا المسيحيين في لبنان خاصة وجواره السوري، من غير أن ننسى «الترحيل الجماعي» المنظّم للمسيحيين في فلسطين المحتلة، تحت ضغط الاحتلال الإسرائيلي، ثم للمسيحيين العراقيين في ظل الاحتلال الأميركي، فإن صحافي عصرنا محمد حسنين هيكل قد رجع إلى لحظة ابتداع كيانات المشرق العربي من خلال وقائع التقاسم الذي تمّ بين بريطانيا وفرنسا عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى واندثار الإمبراطورية العثمانية التي كانت قد تهاوت قبل ذلك وارتأى المعنيون إرجاء إعلان وفاتها حتى الفراغ من تقاسم «ممتلكاتها» الثمينة.
في تلك الوقائع التي لا يريد المعنيون استذكارها، بل يعملون جاهدين لطمسها بالادعاء أنها من الماضي، في حين أنها ما تزال تتحكّم بالحاضر وتؤثر في المستقبل، ما يؤكّد أن أسس إقامة الكيان الصهيوني قد أرسيت في تلك الفترة تحديداً.. ولم تكن مجرد مصادفة تاريخية أن تطلق بريطانيا وعد بلفور بإقامة الكيان الإسرائيلي فوق أرض فلسطين (1917) بعد أقل من سنة على إبرام اتفاقية سايكس ـ بيكو (1916) التي تقاسم فيها الفرنسيون مع بريطانيا منطقة المشرق العربي من شواطئ البحر الأبيض المتوسط إلى بحر العرب والمحيط الهادئ..
وفي تلك الوقائع ما يذهل لطرافته، إلى جانب ما فيها ممّا يفجّر الغيظ لغياب شعوب المنطقة عن القرار في ما يعني مصيرهم، حاضراً ومستقبلاً، وتوزيعهم على «دول» بعضها لم يكن له سابق وجود في أي عصر، وبعضها الآخر لم يكن له ما يبرر استيلاده إلا التمهيد لقيام إسرائيل في المستقبل.
من نافل القول إن الاستعمار قد أفاد من واقع التعدد الديني بل الطائفي والمذهبي، وهو يرسم حدود الكيانات الجديدة مع الحرص على استبقاء عوامل التفجير لاستخدامها حين تدعو الحاجة.. وهكذا تظل الكيانات مهددة في وجودها، ويظل المستعمر هو ضامن الأمن والاستقرار فيها.
أليس طريفاً أن هذه الكيانات العربية المهدد بعضها في وجوده الآن، قد ذهبت كارهة، وإن أظهرت الكثير من الحماسة، إلى الأمم المتحدة لتخوض معركة دون كيشوتية، خاسرة طبعاً، من أجل استنقاذ بعض بعض الأرض الفلسطينية المحتلة لدولة جديدة في بطن الكيان الإسرائيلي، مع وعي الجميع باستحالة «الانتصار» في معركة دولية شرسة كهذه، نتيجة الافتقار إلى الأهلية الذاتية ثم إلى القدرات اللازمة لمواجهة الولايات المتحدة الأميركية في حضن الجبروت الإسرائيلي؟!
[ [ [
هل تطرح هذه المخاطر، الآن، لتشويه صورة الربيع العربي بكل الآمال العراض التي أطلقها حول إمكان تغيير أنظمة القمع وفتح أبواب مستقبل الحرية أمام الشعوب التي غيّبت طويلاً عن القرار، وحوصر خيارها بين السيئ والأسوأ: التسليم بالدكتاتورية أو الغرق في بحور الدم نتيجة الحرب الأهلية!
وبعيداً عن ملايين الشباب من القوى الحية التي أطلقت رياح التغيير مستولدة الربيع العربي من قلب عواصف الشتاء، فإن أعظم المروّجين لهذا الربيع، في هذه اللحظة، هم أعداؤه بالطبيعة وخصومه بالمصلحة.
أليس لافتاً أن يكون إعلام أهل النفط هو من يبشّر، الآن، بالديموقراطية وحقوق الإنسان، وهو من يشهّر بأنظمة القمع التي طالما عمل في خدمتها؟! وهو من يستضيف أقطاب المعارضين فيعقد لهم الندوات والمؤتمرات للتعجيل بالثورة، وهو من يواكب تحرّكات الجماهير في الشارع ويقدّم الإحصائيات عن المتظاهرين والقتلى والجرحى، قبل أن ينتقل إلى التشهير بأجهزة القمع ويحرّض العسكريين على الانشقاق والالتحاق بالثورة؟
إن أهل النفط يدفعون لتبقى «الثورة» في البعيد، ويبذلون من ذهبهم لاحتواء إرهاصاتها التي قد تتحوّل إلى فعل تغييري في جوار منابع النفط..
لقد حاولوا شراء عملية التغيير في مصر، وأنفقوا على تطويع الانتفاضة في تونس وأوفدوا بعض طيرانهم الحربي لقصفها في ليبيا تمهيداً لاحتوائها تحت رايات الحلف الأطلسي.
بل إنهم ضموا الممالك إلى الممالك، من أجل تحصينها ضد «الثورة»، فتعهّد الأغنياء للفقراء منهم بإغداق المساعدات عليهم حتى يقيموا سدوداً في وجه التحركات الشعبية، وهكذا فإنهم انتبهوا إلى إملاق الأردن وإلى ضعف موارد المغرب فقرروا إلحاقهما بمجلس التعاون الخليجي.
ثم إنهم بادروا إلى الهجوم مستخدمين السلاح الطائفي والمذهبي تحت شعار دعم الثورة وإعادة الحقوق إلى أصحابها.. إلا في البحرين وفي اليمن. فمع دول الجوار تختلف الاستراتيجيات لتصبح قاعدتها الصلبة حماية الذات، وإلى جهنم الثورة والديموقراطية والانتخابات وسائر حقوق الإنسان.
لقد موّلوا بعض التيارات السلفية في مصر وحرّضوها ودفعوها في اتجاه افتعال فتنة طائفية عن طريق التصادم مع الأقباط، ثم حاولوا ـ عبرها ـ مصادرة ميدان التحرير… أما على الصعيد الرسمي فقد تعهدوا بتقديم مساعدات مشروطة بالابتعاد عن المغامرات، كمثل التفكير ـ مجرد التفكير ـ بإعادة النظر في اتفاقات كامب ديفيد باعتبارها المرتكز القانوني للعلاقات مع العدو الإسرائيلي.
كذلك فهم يبذلون جهوداً حثيثة لتعويم بعض نظام الطغيان الذي أسقطته الانتفاضة الشعبية في تونس، وينفقون كثيراً من الذهب على تعزيز اتجاهات سلفية بعدما استعصت عليهم بعض التنظيمات الإسلامية الجديدة.. وهكذا، فإنهم فوّضوا الإدارة الأميركية بمعالجتها بعدما أفشل الاستعجال مجهودات الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في استعادة «ثوابت» علاقات التحالف بين الدولتين «اللتين يربطهما البحر، إضافة إلى المصالح الحيوية والثقافة صانعة الوجدان» على حد تعبير أحد منظّري السياسة الفرنسية في مجال احتواء الانتفاضات.
[ [ [
الطائفية والذهب: هذان هما قطبا المواجهة مع الربيع العربي بما يمكن من حرف الانتفاضات عن غايتها في إعادة بناء دولها على قواعد من الوحدة الوطنية والديموقراطية والعدالة والسعي إلى التقدم للحاق بالعصر..
في هذا المجال يمكن الإفادة من الطموح التركي لمحاصرة التمدّد الإيراني،
ويمكن أيضاً التمهيد لإعادة تحريك «جبهة المواجهة» داخــل العــراق بشعارات محض مذهبية، مع محاولة تحييد العنــصر الكــردي الذي قد يستــثير مــن الخصومات أكثــر مما يقــدم التحـالف معه من نفــع.
الطائفية والذهب تحت غطاء الحماية الأميركية ومع تأمين الصمت الإسرائيلي، حتى لا تنكشف الأهداف الحقيقية لعملية اعتراض الطريق على الربيع العربي ومحاولة حرفه عن أهدافه.
والحرب مفتوحة بعد.. ولبنان إحدى جبهاتها الخلفية في انتظار أن تتوفر الظروف الملائمة لتحريكها.
ترى هل كانت هذه التقديرات والاحتمالات في ذهن البطريرك الراعي وهو يطلق تصريحاته التحذيرية، مراراً وتكراراً، ثم يلح على تأكيدها وهو في الطريق إلى واشنطن التي أرادت «تأديبه» بالامتناع عن تحديد مواعيد له مع أركان الإدارة الأميركية؟
الجواب عند غبطته.. ولعلنا سنسمع تأكيداً منه لموقفه بعد عودته، خصوصاً أن محطته الأخيرة الفاتيكان، وفي أهله من يعرف الكثير عن الخرائط القديمة لمنطقتنا وكذلك عن الخرائط الجديدة التي يراهـن البـعض على نقلها من الـورق إلى أرض الواقع.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان