»المواعيد الديموقراطية«، كمثل انتخاب جديد لرئيس الجمهورية، فضاحة للبنانيين، إذ تكشف الود المفقود بينهم وبين »الاختيار الديموقراطي«، كما تكشف الخلل العميق في معاييرهم للمفاضلة بين المرشحين!
وعلى سبيل المثال فإن اللبنانيين يتوزعون، هذه الأيام، بعواطفهم كما بتمنياتهم التي تموه مصالحهم، بين »الرئيس القديس« و»الرئيس الشيطان«!
إنهم، كالعادة، يطلبون الشيء ونقيضه..
هم يطلبون الآن في »الرئيس« صفات قد لا تتوفر في الملائكة،
ولكنهم متى حسموا أمرهم وقرروا فعلاً اندفعوا في اتجاه الرئيس الماكر، الملعون، الداهية، الذي يلعب بالبيضة والحجر، والذي يستطيع أن يخدع الجميع و»يضحك من الجميع« لأطول فترة ممكنة!
ولم يشتهر عن اللبنانيين عشقهم للموضوعية، فهم بطبعهم أقرب الى الشعراء، وربما إلى الزجالين، من دون أن يغادرهم هوسهم بالتجارة التي كثيراً ما تصل في ممارساتهم إلى المقامرة…
ربما لهذا تشدهم المبالغة ويطربون لصيغة »أفعل التفضيل« من نوع: الأكبر، الأعظم، الأفخم، الأقوى، الأغنى، الأكرم، الأبخل، الأجمل، الأبشع، والذي ليس كمثله أحد..
وبرغم حذقهم في التجارة فليسوا من رواد علم الاقتصاد، إذ أن »الأشطر« يستطيع تدوير الرقم و»تدبير حاله« وبيع الهواء والبنايات قيد الإنشاء في المريخ (مع صور لها ومواقعها من الأوتوستراد والمطار الجديد.. على خرائط القرن الحادي والعشرين)!.
ربما لهذا يفضلون كلمة »استحقاق« على كلمة »انتخاب«، فالأولى تعبير مصرفي (أو للمرابين) له صلة بالكمبيالات والسندات المتوجب دفعها، مع فوائدها، في مواعيد محددة، ولا تتصل بالسياسة من بعيد أو قريب، أما »الانتخاب« فيعني الاحتكام الى الرأي العام، أي الى كل الناس، أي الى »الآخرين«، وفي هذا انتقاص من شأن القرار الذاتي والنصر الشخصي.
ذلك ان اللبنانيين يتعاملون مع أي انتخاب على أنه »معركة كسر عظم« ليس فقط في ما بين المرشحين المعنيين، ولكن في ما بين الناس، داخل العائلة وخارجها، داخل الحي أو الضيعة أو المدينة وخارجها، داخل الطائفة أو في ما بين الطوائف جميعا، واستطرادا في ما بين الدول جميعا!
ولأنهم مقامرون بطبعهم، إلى عشقهم للزجل وتوزعهم رياضيا بين المصارعة وكرة القدم، فإن اللعبة السياسية تمتعهم، خصوصا إذا ما اشتد »القتال« بين »الديكة« وسالت الدماء وتزايد حجم الرهانات وتنوعت هويات »المراهنين« و»المتدخلين« والمتقافزين من فوق حبال الحلبة.
لذا فإن »معركة« انتخاب رئيس جديد للجمهورية لا تستثير الكثير من حماستهم، هذه المرة، لأنها تكاد تخلو من »كسر العظم« وتتيح هامشا ضيقا للمراهنات يكاد ينحصر بين »التغيير« وبين »التمديد« للقائم بالأمر أو بمن يماثله في العديد من صفاته »الطبيعية« التي تميز النادي السياسي اللبناني.
البعض ينتظر، أو يطلب، أو يتمنى، الآن، قديسا يهبط على البلاد من السماء، طاهر الذيل، معصوما عن الخطأ، وفي جعبته حلول لجميع المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية الخ..
وبعض آخر ينتظر أو يتوقع (وبغير اعتراض) شيطانا محببا وظريفا يلعب ويلاعب الجميع، يبيع ويشتري، يخدع ويخادع من دون أن يترك للأقوياء أن يكشفوا أمره، فيربح وقتا والمزيد من الوقت، تاركا ما هو أساسي معلقا ليأتي غيره فيتدبر أمره فيه، ويكون هو قد أنهى ولايته بغير أي التزام يحاسبه عليه من بعد أبناؤه أو رؤساء طائفته أو التاريخ، وكلهم في نظره واحد،
أما البعض الثالث فلا يأمل ولا يتوقع أكثر من »رئيس بلدية« إضافي أكثر ما يمكن أن يطلب منه الاهتمام بالنظافة وانتظام العمل وضبط سلوك الآخرين، نسبيا، بالقدوة الحسنة!
البعض يريده حاكماً فرداً، صمداً، يقول لاي امر كن فيكون!
والبعض يريده مجرد حكم بين الاطراف الاقوياء في السلطة المتهالكة! يرفع بطاقة صفراء لهذا اللاعب، او ذاك، من دون ان يكون له الحق في اخراج اي من اللاعبين.
البعض يريده سنداً قوياً للسلطة التنفيذية يعزز مواجهتها للسلطة التشريعية، وليس طرفاً محايداً مهمته تنظيم الفصل بين السلطات!
الكل يتقدمون منه وقد اعلنوا انهم، وان اخطأوا في السابق، فهم اصحاب حق غير قابل للنقض في ان يكونوا ركائز عهده الجديد… ولعل بينهم من يفترض انه بهذا الاعتراف قد غدا افضل واقوى من هذا الاتي بغير ان يعترف، وبالتالي فهو خاطئ لم يمنح التوبة بعد، بينما هم يحملون صكوك براءتهم في اعناقهم!
والتوبة تعني الغفران وطي صفحة الماضي بلا حساب، فمن اعترف بذنبه لا ذنب عليه ولا تجوز بالتالي مساءلته عما كان، او مطالبته بمعاقبة من ورّطه في الخطأ او من استفاد منه او من وصل الى موقعه بفضله!
في غمرة هذه المناكفات المحلية، والتذبذب بين الرئيس القديس والرئيس الشيطان، يغفل اللبنانيون عن حقيقة ان رئيسهم الجديد سيتولى قيادتهم الى القرن الحادي والعشرين، بكل ما يسبقه ويمهد له من تحولات كونية ومن تطورات سياسية ومن صراعات خطيرة تهز العالم كله وتبدل فيه جذرياً وتفتح ابواب المجهول امام الشعوب والدول الضعيفة،
وفي ما خصنا في لبنان، وفي الدنيا العربية عموماً، فان المخاطر المصيرية اوضح من ان تحتاج الى ما ينبه اليها: فالصراع العربي الاسرائيلي قد دخل طوراً شديد التعقيد بعد انقسام العرب الى »مهرول« ومسالم ومضيع نفسه والى قلة صامدة تحاول حماية قلعتها الاخيرة في سوريا ولبنان وبعض جيوب المقاومة والممانعة العربية،
وانسحاب الولايات المتحدة الاميركية من رعاية »العملية السلمية«، كما يبدو جلياً الان، ليس تعبيراً عن عجز ادارة كلينتون، بل هو يتحول امام عيوننا الى تواطؤ مفضوح عبر الحلف التركي الاسرائيلي الذي يكاد يعلن حرباً مفتوحة على سوريا ومعها لبنان والعراق (ومن خلفه الجزيرة والخليج)، ودائماً تحت الرعاية الاميركية، وبمشاركة ذيلية للنظام الاردني مهمتها تمويه العداء الصريح، ولو امام من يرغب في التملص من مسؤوليته القومية.
ان الحقبة المقبلة (ونحن نعيش مقدماتها الفعلية) اخطر من ان يتحمل مسؤوليتها رئيس كل صفاته انه »قديس« طاهر اليد والذيل، او رئيس »شرلطان« يعرف كيف يتهرب من تحديد موقفه من اي امر مطروح بالهرب الى الكلام العام والمبهم والى الجمل الانشائية الفخمة العبارة والتي تزوغ من تحديد اي موقف من اي طرف او قوة او أمر مطروح.
رئاسة العهد المقبل أخطر من ان تواجه بالزجل او بالتمنيات او بالاحقاد المتبادلة او بصراع اطراف السلطة على سلطة شكلية في بلد مهدد في مصيره.
لكن اللاعبين المحليين يحاولون استخدامها فرصة ليكسر واحدهم عظم الاخر، او لينقص الشريك حصة شريكه.
وعلى القرن الحادي والعشرين بكل انجازاته العلمية المذهلة ان ينتظر تعديل الحصص والا فلن نسمح له بأن يأتي!!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان