مع اقتراب موعد التسليم والتسلم يتعاظم الجهد المبذول لاحداث شرخ بل هوة بين العهدين، وتصوير الآتي بانه النقيض بالمطلق للمنصرم، وان مهمته الأولى والأخيرة وربما الوحيدة أن يهدم »الهيكل« على رؤوس بناته ومن هم فيه!
يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة تنشر الاشاعات والأقاويل، كما تطلق الأسهم المسمومة على العهدين معاً، تارة تحت عنوان ضرورة الاقتصاص من »المفسدين« الذين جاءت أخيراً لحظة رحيلهم، بل اقتلاعهم من مواقعهم، وتارة أخرى من مدخل مطالبة العهد الجديد أو تحميله أثقال مهمات مستحيلة لا تستطيع انجازها دولة سليمة ومعافاة وغنية بالموارد بحيث تطعم قططها ذهباً!
ان المسرح يعد تماماً لخيبة أمل مريرة تنتهي بها تظاهرة النفاق المركبة (سياسياً) التي استقبلت انتخاب اميل لحود رئيساً للجمهورية.
فثمة استنفار للطبقة السياسية لكي تواجه الخطر الداهم بالاحتواء طالما تتعذر المواجهة،
… وهو »احتواء مزدوج«: شقه الأول خنقه بالعناق، وشقه الثاني »كشف« عجزه برصف طريقه بمطالب مستحيلة التحقيق.
ان البعض يطالب اميل لحود بما عجز عن تحقيقه كل رؤساء الجمهورية بدءاً من بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب وصولاً الى الياس الهراوي، مجتمعين، وبغض النظر عن الفروق في ما بينهم، والاختلافات الجوهرية بين كل منهم والآخر، واختلاف لحود عنهم جميعاً واختلاف الظروف محلياً وعربياً ودولياً.. ناهيك باختلاف الدستور.
بل ولعل ثمة من يطالبه بمحاسبة أولئك جميعاً بمفعول رجعي، ونبش قبورهم، ومن ثم التقدم من فوق حصانه الأبيض لاقتحام حصون العجز وفساد الذمة والاهمال وقصور الامكانات، لاشادة لبنان الذي في التمني.
البعض يحذره من كل الذين تداولوا السلطة، ومن أي موقع، فيرميهم جميعاً بابشع الاتهامات، وبغض النظر عن نسبة الصحة في ما ارتكبه هؤلاء، فان المشاكل التي تواجه لبنان أخطر من ان تحل بقرار إبعاد هذا او ذاك من السياسيين،
والبعض يحذره من سياسة »العزل« وادانة الكل بجريرة البعض، ومن ثم فهو يطالبه بسياسة العفو عما مضى والبدء بصفحة جديدة، فلا يكون حساب من أي نشوع، عن الماضي، واعتماد المحاسبة ابتداء من اليوم.
البعض يدين عهداً بكامله، متجاهلاً أي انجاز فيه، متناسياً انه لولا تحقق تلك الانجازات السياسية لما وصل اميل لحود الى الرئاسة،
… والادانة هنا تتعدى الاشخاص لتصيب التوجه السياسي،
والبعض الآخر يطالب بالبراءة المطلقة وللجميع لكي يتابع المفسدون افسادهم والمرتكبون ارتكاباتهم، والاخطر: لكي يستمر المنهج ذاته الذي يعترف جميع المسؤولين بضرورة مراجعته وتصحيحه لترشيده… والبراءة المطلقة هنا تحمي كل من وما شوه وجه العهد الماضي، بل وما اعترف بارتكابه او بالتورط فيه اهل العهد الماضي.
قليل من يتوجه الى الرئيس الجديد ويطلب منه ويساعده على ان تكون مباشرته السلطة فرصة لمراجعة نقدية شاملة لما كان وجرى، ولاعادة تنظيم الاولويات مع الأخذ بالاعتبار الامكانات والظروف المحيطة،
لقد ضاعت مثل هذه الفرصة او ضيعت مع وصول رفيق الحريري الى رئاسة الحكومة، وسط موجة التأييد الشعبي العارمة، فطغى الاستسهال او النفاق او التلهف للانجاز، او تجاهل بعض الاعتبارات السياسية، او المبالغة في تقدير امكانات البلاد، او الحرص على عدم التضييق على الناس الخ.. على المحاكمة الباردة للظروف والقدرات المتاحة ورسم سياسة اقتصادية صارمة تأخذ باعتبارها الدمار الذي احدثته الحرب في بنية الدولة والمجتمع وفي القيم السائدة.
والمرجو الآن الا تضيع فرصة الاجماع الشعبي على شخص الرئيس الجديد بمواصفاته المحددة، فيستثمر هذا الاجماع في رسم سياسة واقعية لا تعد الناس بالكثير المستحيل، وتشركهم في المسؤولية عن تحقيق القليل الممكن ولكن الضروري، كمدخل طبيعي إلى آمال المستقبل التي لا يمكن التعجيل في استيلادها بعملية قيصرية في معدة شبه فارغة.
انها فرصة نادرة لان يصحح النظام نفسه، ولان يؤكد الحكم التزامه بإقامة دولة المؤسسات، وانهاء المرحلة الانتقالية التي كان فيها الاشخاص يختصرون أو يختزلون بأنفسهم السياسة والتاريخ والجغرافيا، الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتنشئة الوطنية وتحرير الأرض المحتلة وصولا الى القدس الشريف!
اميل لحود ليس ساحراً يصنع المعجزات، وحده، وبقدرات خارقة.
ان أهم ما في اميل لحود انه كبر بالمؤسسة التي كان يقود وليس على حسابها، وانه بناها بالجهد والعرق وليس باستيراد الطائرات ذات المليارات او الدبابات التي لا تجد من يقودها.
لقد جاء الى الحكم رجل واقعي بأحلام كبيرة، ولكنه يقرأ الارقام جيداً، ويميز بين الممكن والمستحيل وبين »المناورة« و»الهجوم الفعلي« وبين »العدو« والصديق، ويحسن استخدام الامكانات المتيسرة وهي قليلة لبناء انجاز كبير.
… ولعل مجيئه مسلحاً بتجربته يصحح ما يجب تصحيحه ويكمل ما يجب اكماله من الناموس او ما ينبغي اتمامه من مكارم الاخلاق.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2025 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان