فقط في لبنان يمكن أن تتجاور »الآخ« و»الآه« لتؤكدا فرادة »الشعب العظيم« الذي تعوّد الانقسام في عواطفه كما في مواقفه السياسية إلى حد إنكار بعضه بعضاً، فضلاً عن الاستمتاع بتعذيب الذات لتأكيد »الولاء« للزعيم، ولو من باب »النكاية« بجاره!
فقط في لبنان يمكن أن تبدأ نشرات الأخبار باشتباكات دموية، على خلفية سياسية مموهة بالطائفية والمذهبية، ثم تنتقل إلى محاورات مباشرة مع المسؤولين الكبار في الدولة والقادة الأفذاذ في الشارع بغير أن تهمل تصريحاتهم اليومية المثيرة للفتن، لتنتهي بلقطات ممتعة من مهرجان فني يختلط فيه الغناء بلغات عدة مع الرقص بلغة جنسية مباشرة وإن تعددت تعبيراتها والإيحاءات..
فقط في لبنان يمكن أن تتداخل المداولات والتعليقات والتحليلات المعمقة لهذه الكلمة أو ذلك التعبير في مشروع البيان الوزاري لحكومة عتيدة استهلكت ربع عمرها الافتراضي في التشكيل ثم في كتابة النص الإبداعي غير المسبوق لبيانها ثم في تصحيحه وإعادة التصحيح بالإضافة والحذف ثم حذف الحذف وتصحيح التصحيح…
… يمكن أن تتداخل تلك المداولات مع مقالات وكتابات وجدانية ممتعة عن حفلة هذه المطربة بصوتها، وتلك المطربة بجسدها، وذلك المغني بقدميه، وتلك الفرقة الموسيقية العالمية المستوى التي جاءت لتغني في بعض أريافنا التي يشكو أهلها ضيق الحال وضيق البال وضيق فسحة الأمل!
للتذكير وليس للتشهير تمكن الإشارة إلى بعض الوقائع الثابتة:
في 25 أيار، وبعد ستة أشهر من الفراغ الدستوري، وقرارات حكومية خاطئة والرد عليها بالسلاح في الشارع، وبعثة عربية للمصالحة، ومؤتمر دولي في الدوحة، أمكن انتخاب رئيس للجمهورية.
بعد يومين فقط كان الشعب اللبناني العظيم يتدافع شبابه وفتياته إلى حد الإغماء في ساحة الشهداء، نتيـجة الازدحام في مهرجان غنائي تعذر على مطربه »عاصي« أن يغني… حرصاً على حياة الجمهور الذي أسكرته »هيفا« فغاب عن وعيه!
وعلى امتداد أسبوع شهدت ساحة الشهداء مهرجاناً غنائياً مفتوحاً تناوب على إحيائه راغب ونانسي وفضل ونوال ورامي وساري وماجدة.
بعد 46 يوماً أمكن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، في غياب هذه الوحدة… لكن ذلك لم يمنع أن تفتتح المطربة المغربية كريمة مهرجان بيت الدين باستعادة ممتعة لأغاني أسمهان… ولا أن يفتتح المغني الفرنسي تيلييه وفرقة »ماوس اون مارس« الألمانية مهرجان جبيل.
بعد عودة رئيس الجمهورية من زيارته التاريخية لباريس واللقاء ـ الحدث فيها مع الرئيس السوري، والتقاط الصورة التذكارية للحكومة التي استولدت بأكثر من عملية قيصرية، وقفت سمية تغني في صور، وعزف مارساليس الساكسوفون في بيت الدين وغنت ديوس البلجيكية في جبيل، ورقصت فرقة كارلوس التانغو، بينما قدمت فرقة بارباتوك الرقص البرازيلي، قبل أن يعزف تشوشو فالديس وميشال لوغران.
… ومع الاحتفال بالصياغة الأخيرة للفقرات المفجرة لمشروع البيان الوزاري أمكن لكاظم الساهر أن يغني لبغداد ولبيروت من قصائد نزار قباني كما من خزين الطرب العراقي، لتعقبه في إحياء المناسبة ستريدا حداد المكسيكية من أصل لبناني في بعلبك.
لم توقف الاشتباكات في طرابلس بين باب التبانة وجبل محسن، مسيرة المهرجانات والاحتفالات وحفلات الطرب والرقص… فالبعيد عن العين بعيد عن القلب وليس للفقراء الحق في أن يفرحوا أو يسمعوا غناء غالي الثمن!
أما بعلبك فقد تمّ الاحتفال ببدء مهرجاناتها العظيمة في بيروت وليس فيها وبمطرب أجنبي نطاط وليس بعمل للرحابنة (رحم الله الزمن الجميل) تقدمه فيروز ووديع أمد الله في عمريهما، أو فرقة كركلا، أو بعض شيوخ الدبكة في بعلبك وعلى صهيل حصان من خيلها، مثلاً.
… وكان على قاصدينا أن يسألوا فيطمئنوا الى استمرار الهدوء على جبهة ستالينغراد وبين الأخوة الفقراء في كل من تعلبايا وسعدنايل.
لم يعد الفن العربي الأصيل سمعة على أدراج بعلبك…
طرب وغناء ورقص وموسيقى كلاسيكية وفولكلورية في أنحاء شتى، وفي الصفوف الأولى رجال الدولة وقادة الشعب من زعماء الطوائف والمذاهب والملل والنحل، يسمعون ويهزون رؤوسهم إعجاباً ونشوة.
لكن أحداً من هؤلاء لم يستمع إلى الأهالي في المناطق التي قصدوها وهم يشكون همومهم لبعضهم البعض، إذ لا مرجعية ولا قيادة ولا زعامة مؤهلة أو مستعدة لأن تسمع فتعي فإذا وعت همت للعمل من أجل إصلاح الحال.
كل القادة والزعماء يعرفون أن اللبناني يدفع كلفة حياته مضاعفة: الكهرباء فاتورتان، واحدة للمؤسسة والثانية لصاحب المولد، أما الماء فغالٍ إذ ارتفع أجر الصهريج إلى ثلاثين ألفاً بعد ارتفاع أسعار النفط، فأما الهاتف فاثنان ثابت وخلوي، وأما أقساط أولاده في المدارس الخاصة فتتجاوز مجموع مرتباته خلال السنة، أما إذا صاروا في الجامعات فعليه أن يبيع من أرزاقه الموروثة عن أهله إذا وُجدت، وهيهات أن تكفي!
وكل القادة والزعماء يعرفون أن ربع اللبنانيين يعيشون على ما يجيئهم من ذويهم الذين يذيبون شبابهم وسط الاضطرابات التي تجتاح معظم دول أفريقيا التي كانت إلى ما قبل سنوات »المهاجر من الماس« والتي صارت مخاطرها الآن أعظم من مردود التعب فيها.
.. وأن ربعاً ثانياً من اللبنانيين يعيشون على ما يرسلهم أبناؤهم الذين يصهرون فتوتهم في أقطار الخليج التي لم تعد مصدراً للثروة أو حتى للكفاية (بالنسبة للموظفين)، بل صار الدخل الصافي أقل من أن يكفي للحياة فيها ثم إمداد الأهل بما يسد حاجتهم.
وكل القادة والزعماء يعرفون أن الزراعة في لبنان »تموت«، إذ إن كلفة الإنتاج باتت أعلى بكثير من مردود البيع… وقد تضافرت عوامل الطبيعة (شح المطر، وندرة الثلج) مع غلاء المازوت مع الاحتكار مع قصور إيدال، مع منافسة المستورد بأسعار أقل من الكلفة محليا، على إفقار المزارعين حتى أن كثيرين منهم انصرفوا عن هذه التجارة الخاسرة، تماماً مثل أصحاب المداجن ومربي الدجاج ـ الفروج.
مع هذا كله فإن »الصراع« حول تشكيل الحكومة التي استولدت قيصرياً واستولد بيانها الوزاري بالكمائن الكلامية، لم يلحظ على امتداد الشهرين الماضيين هموم المواطنين أو الرعايا الذين تدفعهم كلفة الحياة المتزايدة يومياً مع قصور الدولة عن تأمين الخدمات الأساسية (التعليم، الصحة، الكهرباء، المياه، النقل) إلى وهدة الفقر.
هذا إذا ما تناسينا حقيقة أن بيروت خصوصاً، ومعظم ضواحيها، قد باتت مخصصة للأغنياء، مستثمرين ومثمرين، »تطرد« متوسطي الدخل إلى الضواحي البعيدة حيث يمكنهم استئجار بيت يتسع لأفراد العائلة، إلا مَن جعله حظه من ورثة الأملاك التي يعوّض ارتفاع أسعارها أضعافاً مضاعفة عن حصوله على مسكن لائق خارجها… متحملاً أزمة المواصلات الخانقة منها وإليها فضلاً عن داخلها!
أين يقع الصراع على »المقاعد« في حكومة الشهور التسعة، ثم على الفقرات أو الجمل أو الكلمات في بيانها الذي لا يعني الناس في شيء، من هذه الهموم التي تثقل على اللبنانيين…
لا يحتاج واحدنا إلى استطلاع رأي ليعرف أن هذا البيان الذي ليس فيه من السحر شيء كان مجرد كاشف لمدى غربة الطبقة السياسية عموماً عن هموم »الأهالي«…
… وليعرف أن اللبنانيين، عموماً، لم يهتموا كثيراً للتحفظات التي منعت التوافق على ما لا يجوز أن يكون موضع خلاف.
كانوا يسمعون أو يقرأون ما تقوله إسرائيل عن المقاومة فيطمئنون ويبتعدون عن الجدل المبتذل الذي لا معنى له غير نفاق الناخبين، بحسب طوائفهم ومذاهبهم.
أما الدولة فكانوا يسمعون عنها ولا يرونها، وإن كانوا قد أمضوا السنوات الطوال في انتظار أن يكون لها »كنف« فخاب أملهم، لا سيما أن معظم من يرفعون شعارها اليوم كانوا بين من هدموا هيكلها على رؤوس مواطنيها… فصاروا زعماء!
هيا… »اعطني الناي وغنِّ… فالغنا سر الوجود«!