يعرف الإسرائيليون لمن سيعطون أصواتهم اليوم، ويعرفون تماماً لماذا حسمت أكثريتهم خيارها بين »المقاتل الشرس بثياب مدنية« وبين »المدني« الذي بالغ في استخدام لغة الحرب حتى بدا وكأنه يقاتل ضد العالم كله، بغير مبرّر مقنع بضرورة هذا القتال لسلامة إسرائيل، ككيان، ولأمنها، ولمستقبل وجودها في هذا المحيط العربي المزروعة فيه بالقوة، والذي لم يعد يناقش »مبدأ« هذا الوجود بقدر ما هو خائف على وجوده بهويته ومستقبله في أرضه.
وإذا كانت أكثرية الإسرائيليين قد اختارت، بالفعل، كما تدل المؤشرات السياسية فضلاً عن استطلاعات الرأي، إيهود باراك، فهي إنما تعطي أصواتها لمن تفترض أنه سوف »يصالحها« مع العالم لتغدو أقوى بذاتها، وبالتالي أقوى على العرب عموماً، وهم في أضعف حال، بحيث يمكنها أن تنتزع أفضل الشروط لمستقبل وجودها وهيمنتها على هذا المحيط العربي من موقع التفوق العسكري والتقدم العلمي والنجاح الاقتصادي.
لم ينجح بنيامين نتنياهو، الذي كان يوصف بأنه »ملك اللعبة الإعلامية«، بأن »يبيع« نفسه إلى العالم، ولا هو استطاع أن »يسوِّق« مشروعه لإسرائيل القلعة المنيعة والقائم على أن تعطي محيطها الأمن فيعطيها مع الأرض، السلام والأسواق والموارد والسياحة ومفاتيح عواصمه.
وكان فشل نتنياهو مدوياً مع حلفاء إسرائيل الاستراتيجيين، وبالتحديد مع الولايات المتحدة، كما مع الذين تعهدوها بالرعاية الدائمة، تمويلاً وتسليحاً، وبينهم العديد من دول أوروبا الغربية.
لم يحدث أن انحازت واشنطن إلى العرب، أو وقفت محايدة بينهم وبين إسرائيل، بل هي ضغطت عليهم دائماً بالسياسة والاقتصاد وبالسلاح، وأسهمت مباشرة (وبقواتها حين لزم الأمر) في منع انتصار العرب عليها أو تعادلهم معها، وأخذتهم إلى توقيع التنازلات الجوهرية لإسرائيل.
ومع أن بيل كلينتون قد بزّ أقرانه جميعاً من الرؤساء الأميركيين في الانحياز إلى إسرائيل فإن بنيامين نتنياهو لم يتورع عن تهديده بأن يحرق عليه واشنطن، ثم تملص من الاتفاقات التي رعاها لأجله مع الفلسطينيين والتي التزم فيها بأقصى مطالب إسرائيل السياسية والأمنية والاقتصادية..
إن التزكية الأولى والأهم لإيهود باراك قد جاءته من »خصمه« نتنياهو، إذ كان يكفيه أن يقدم نفسه في صورة النقيض أو المختلف معه حول الأساسيات ليضمن تأييدا واسعا من القوى العالمية المؤثرة إسرائيلياً ثم من الناخبين الذين لم ينخرطوا فجأة في »حركة السلام الآن«، ولكنهم لا يرون مبرراً للبقاء مستنفرين في حرب مفتوحة لا يرونها ضرورية، بل هم كانوا قد وعدوا أنفسهم بعصر جديد مختلف يخترقون فيه المحيط العربي »بالعبقرية اليهودية« ليشاركوا »المال العربي« وليكسبوا أسواقاً فسيحة لانتاجهم الصناعي ومدىً حيوياً لنفوذهم السياسي.
من التبسيط المخل أن يعتبر العرب »إيهود باراك« اختراعاً أميركياً، أو »عميلاً أميركياً« يلتزم بما يجيئه من واشنطن فينفذه بلا اعتراض،
ومع أنه حاول أن يقدم نفسه كمكمل لدور إسحق رابين، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن يبدأ من حيث انتهى الرجل الذي يفوز الآن بصوته.
ولعل »المهرولين« من المسؤولين العرب سيروجون، الآن، أن قطار السلام قد وصل إلى محطته الأخيرة، لمجرد أن »رجل أميركا في تل أبيب« قد تسلم سدة الحكم فيها، وأن ليس عليهم غير الترحيب به وانتظار دعوة واشنطن لكي يلتقوه فيها ويدفنوا معاً »الصراع التاريخي« مستهلين عصر السلام العظيم.
لم تخف واشنطن تأييدها لباراك. هذا صحيح. ولكنه »حليفها«، وهي ليست بأي حال حليفة العرب.
وقد تكون هزيمة »نتنياهو« انتصاراً لإسرائيل، داخلياً ودولياً، ومن ثم على العرب الذين ما زالت »فلسطينهم« في موقع بين الوهم وبين التمني، وما زالت بعض أراضيهم في لبنان وسوريا محتلة، وما زال أمنهم في مهب الريح في ظل التفوق الإسرائيلي ومشروعها التوسعي المعلن، داخل فلسطين، والذي يحاول أن يفرض شروطه على العرب من حولها، بل وحتى آخر حدود لغة الضاد.
بالمقابل ليس فوز باراك انتصارا للعرب، أو لمشروع »السلام« الذي تخلى عنه راعيه الأميركي، والذي قد يتخذ الآن سياقا جديدا لا يقل خطورة عن الحرب، خصوصا وان بين عناوين البرنامج الانتخابي للجنرال الذي سيصير رئيسا منع قيام دولة فلسطينية ومنع البحث بأمر القدس وفصل المسارين اللبناني والسوري، عن طريق التلويح بانسحاب مفاجئ ومن طرف واحد من الأرض اللبنانية التي يحتلها.
فالصراع مفتوح ومستمر، ولو استعار بعض عناوين »السلام«. والسلام يحتاج قوة لعلها تفوق ما تحتاجه الحرب. ودرس إسحق رابين متعدد الوجوه بالنسبة لخلفائه.