يمكن للمرء، في زمن الكورونا، الاستنجاد بكتاب الكاتب الفرنسي الكبير ألبير كامو “الطاعون” الذي صور فيه حياة مدينة (وهران الجزائرية) يصيبها الوباء، ويرصد ردود أفعال سكانها بين من يقرر المقاومة ومن يفضل الهروب، وبين من يقع ضحية المرض ومن يستغله. والواقع أن الرواية ورغم تقادم الزمن (نشرت في نهاية الأربعينات بعد نهاية الحرب العالمية الثانية) لا تزال في بعدها الرمزي، من أهم الشهادات الأدبية ضد النازية التي يستخدم الكاتب الطاعون للإشارة إليها دون تسميتها.
اليوم يعيش العالم على إيقاع حدثين هامين: الكورونا ومشكلة اللاجئين. واذا كانت استعارة “الطاعون” مناسبة للكلام عن الفيروس، فإن أكثر ما يخطر على البال، عند تناول موضوع اللاجئين الذين يتكدسون في منطقة عازلة بين اليونان وتركيا، هو كتاب آخر لكامو: السقطةla chute .
الكتاب تحفة فنية من أوله حتى آخر سطر فيه. وهو يروي على لسان بطل الرواية الوحيد، التناقض الهائل الذي يعيشه الفرد والمجتمع بين الأفكار النظرية من جهة، والشجاعة اللازمة لتطبيقها من جهة أخرى. فجان باتيست، الرواي، كان محامياً باريسياً لامعاً، مزهواً بنفسه ولا يخلو من جاذبية. لكنه ذات يوم وقف جامداً وهو يراقب إمرأة لا يعرفها تلقي بنفسها في نهر السين دون أن يتجرأ على القفز إلى المياه الباردة لإنقاذها. تبدأ سقطته هنا، كما يقول بلسانه، فما فائدة كل الأفكار والمثل والكلام المنمق الذي يثير إعجاب الجميلات في المناسبات الإجتماعية اذا كان الإنسان عاجزاً عن الفعل الحقيقي في لحظة هي الفصل بين النظرية والتطبيق مثلما حصل للراوي؟
لكن أليس هذا بالتحديد ما يجري في أوروبا إزاء أزمة اللاجئين؟ من يعرف أوروبا قليلاً لا بد لاحظ كمية المُثل التي تتغنى بها في كل زاوية من أرضها: عدالة، حرية، مساواة… ليس هناك رئيس فرنسي واحد لم يردد مرات ومرات عبارة “قيمنا” تلك القيم التي تحولت إلى معايير عالمية للحكم على مجتمعات أخرى تفترض أوروبا أنها لا تتقاسمها معها.
من المجحف القول أن كل ذلك كذب وأن أوروبا مجردة من كل هذا. كل من عاش فيها استفاد بشكلٍ أم بآخر من مميزاتها وعدالة قوانينها. الأصح هو أن أوروبا تتغير تحت ضغط الإقتصاد واليمين المتطرف والشعبوية العائدة. لقد عاشت فترة ذهبية قرابة خمسة وسبعين عاماً بعد أن إنتصرت عسكرياً وأخلاقياً على النازية الألمانية. لكن هذا العصر يوشك ربما على الانتهاء، ومن الممكن أن تكون كل الأفكار، من فولتير إلى اليوم، بحاجة إلى رؤية جديدة.
اللاجئون، فضلاً عن مأساتهم الإنسانية، معيارٌ وكاشفٌ لأوروبا. فهم من حيث أرادوا أم لا، يضعونها أمام معضلتها الأخلاقية بحدة: فإما فتح حدود وتحمل تبعاته، أي إعلاء القيم فوق الصعوبات والهواجس؛ وإما إغلاق فإنغلاق وجدران جديدة، أي التراجع عن القيم ذاتها تحت ضغط الوقائع المجردة.
الصور الآتية من اليونان والتي تظهر مجموعة من البشر نُزعت عنها ثيابها، ووقفت بعريها متلاصقة ترتجف من البرد، تصيب الضمير أي ضمير، في الصميم. وهي تعيد إلى الأذهان حقبة سوداء في تاريخها. وإذا كان من الممكن تفسير الخوف من الآخر ومخاطر دخوله إلى الفضاء الأوروبي، فإنه من المحال تفسير تعريته ونزع ملابسه ووضعه في العراء! هذه صور معتقلات، لا صور منطقة حدودية و لا شيء يبرر هذا، لا شيء!
يخطئ اللاجئ العاري اذا شعر بالأهانة! الإهانة تطال قبله الفاعل، وتطال طابوراً من ساسة وحكام وحسابات. الإهانة الوحيدة الممكنة هي لهم ومن صنعهم، لأنهم قادرون على الفعل، لكنهم، وبسبب حساباتهم الآتية أو عجزهم أو لامبالاتهم، يفضلون على غرار بطل السقطة، مراقبة الغريق دون نجدته.
هذه هي نفسها معضلة كامو وعبثية الشرط الإنساني بين الطاعون (الكورونا) والسقطة (اللاجئون)، التي سنَّها في كتابه والتي تبلغ حدودها القصوى حين ينهي بطل الرواية حديثه بسينيكية قائلاً ما معناه، أنه لو عادت عقارب الساعة إلى الوراء لكان من الممكن أن تتغير الأمور، لكن، ولحسن الحظ، فقد فات الأوان، وسيفوت الأوان دائماً!
غدا، عندما ستتحرك أوروبا، لتقدم بعض المال إلى المستثمرين في عذابات البشر، أو عندما ستستقبل بعضاً منهم لتجميل الصورة، سيكون قد فات الأوان، لحسن الحظ.
سيقال حينها، ربما، أن مهاجرين عراة بعضهم سوري، وبعضهم عراقي أو سوداني أو ايراني، وكلهم بشر، قد عرًوا بلادهم أولا، ثم تجار نخاستهم، قبل أن يعرًوا أوروبا والعالم بأسره.