لا أعرف متى التصقنا بهذه الأرض وعشقنا هذا التراب. لعلّه مذ كنا. أي من بداية البدء. رملها سريرنا وأفقها سماء موشّحة بغيوم لها دائماً رائحة البرتقال، وصلوات بطقوس من همس الأرض. إننا ممتلئون تراباً. ليس من معجزة أن الغيوم تُقلّد صبر الأرض. وليس غريباً عنا، أن دماءنا هدية الوجود. والسماء أهدتنا الديانات. عشناها وعرفناها. بعضنا مات من أجلها، وبعضها قتلنا، لأن قداسنا اليومي وصلواتنا الواجبة كانت هوية حياتنا.
لكن، حدث منذ زمن، أن صرنا زمناً للقتلى. نحن من هنا. أتينا من هنا. نموت هنا. نعشق هنا. نسلنا من هنا، عنادنا من أصالتنا. نضالنا المستدام، كي نحيا فقط. لا نريد أن نعيش بين الزناد والطلقة. هذه أرض سلام. أرض هداية. أرض شعب “حمى الله” من بشاعات القتل. نحن اليوم هنا، وباقون هنا، وعائدون إليها. لا نتساءل: لماذا يهوى هذا الغرب الحقير والدموي، فعل الاغتصاب، اغتصاب التاريخ أولاً، اغتصاب ما فوق الأرض وما تحتها. أخبرونا. لسنا في فلسطين ملجأ للصوص. نحلف بالله وكتبه وأنبيائه، أننا لم نرتكب من قبل، هفوة ضد هذا الغرب الذي يعيش على عقيدة القرصنة. ثيابه أنيقة. آدابه رائعة. موسيقاه مذهلة. إلى آخر كلمات الفخامة والتفخيم، ومع ذلك، فإن حقارته وسفالته وانتهازيته وعدوانيته ونهبه المستدام، تدعو الآخرين إلى تقبيل يديه المرصعتين بدماء شهدائنا. شهداؤنا لم يرتكبوا سوى فعل الوجود كبشر فقط.
لسنا الزوج المخدوع. لسنا العبيد الأغبياء. نجلس أحياناً مع صمتنا. نسأله: متى اعتدينا على الغرب. متى كنا فعل اغتصاب. علاقتنا بالأرض علاقة إنسانية. تجارتنا موزونة بأخذ وعطاء. الغرب يأخذ، يغتصب، ويعاقب.. ويركب على أكتافنا. يأمر حكامنا البلهاء بجدوى الخضوع، وتفضيل الزحف على الجباه، و… إلى آخره من كذب ودجل وانتهاك.
نموذج هذا الغرب المتوحش، هو ما ارتكبوه، من زمن اجتياحاته القارية. غزوا أميركا وارتكبوا الإبادات. حرموا جنساً بشرياً من الوجود. وهو جنس على قرابة روحية بالملائكة. ليتكم تعرفون معتقداتهم وصلواتهم والصلبان التي… إلى آخره، وعليه انحازت شعوب الأرض المغتصبة إلى المقاومة.
فلنخرج من الخريطة العربية، الهند العظمى (مليار ونصف المليار نسمة). احتلتها بريطانيا (الصغيرة) العظمى. مملكة أبادت وسطت وعذّبت وجوّعت حتى منتصف القرن العشرين. الهند قارة سخاء وعطاء ومذاهب وإبداعات. لنستعد إفريقيا كلها. نعم كل إفريقيا. إنّ ثروات الغرب، كل الغرب، هي من منهوبات بلاد أنجبت حضارات وأفكاراً وألحاناً وأديانا.
ثم، لماذا اختار الغرب، أن يفتتح القارات ويصادرها ويستعبد شعوبها، علماً أن دينه هو دين المحبة. كذّابون. دجّالون. قيل لهم، لا تعبدوا ربّين. سخروا من الله. وضعوا المسيح في تمثال ثم تبنوا سابقة قايين… أيها الغرب المجرم (ليس بشعوبه) أنتم قايين العصور. لماذا أنتم قايين؟ لأن الرواية ترمز إلى صراع بين اقتصادين.
نستعيد أحداث الواقع بالوقائع. كان الفلاسفة والرُسل يُبشّرون بما يؤمنون. أديان وثقافات توالت وأضافت. البشرية صياغة إنسانية متنوعة، وبعض مفاصلها استقام على القوة. عاشت البشرية على أفكار وعقائد. تحوّلت هذه إلى أسلحة قتل. ألا يُشبه ذلك التاريخ، تاريخنا الراهن. المعرفة خطر خطير جداً. افتحوا صناديق الشاشات. كيف لا تصفع هذا المذيع وذاك الحوار؟ تمت مصادرة الكاميرات والشاشات الموزعة في كل القارات. هل هذا إعلام أم تحريض على القتل أم تهديد بالإسكات؟
خلص: ودّعوا الحقائق. إحزنوا على القيم، إختاروا أمكنة سرية للحفاظ على الأخوّة الإنسانية. المساواة. العدالة. الحب. التقدم.. إنّ الأرض غنيةٌ جداً، من فوق ومن تحت، ومع ذلك، فإن أعداد الجائعين يبلغ ملياراً وسبعماية مليون. ولا أحد يعرف عن هؤلاء شيئاً. الأكيد أن المجاعة تفتك بالفقراء وتقتل الأطفال.
يا الله.. قلتُ دعوا الأطفال يأتون إليّ. يا الله، الطريق مقطوعة، والأطفال لا يستطيعون الانتقال إليك.
قليل من الكلام على ما يلي، وأسئلة للإجابة عليها:
ماذا لو أُتيح لك زيارة جو بايدن. ماذا تقول له، أو بأي يدٍ ستصفعه، أو أي شتيمة تضعها حلقة في أذنيه. هل ستحس بقدمك اليمنى تتحرك لتمارس الرفسات السرية، هل يمكن أن تعامله كإنسان؟ كيف ستُهين إيمانويل ماكرون؟ لقد تفوّق على الديكتاتوريات الاستبدادية العربية. إنه يخاف من العلم الفلسطيني. كذّاب هذا. خادم أمين لصناديق المال. فرنسا في هذا الزمن طردت فلاسفتها ومفكريها. خرجت على مبادئ ثورتها الرائدة. داست عصر النهضة. وضعت ختم الموت على القيم والأخلاق والحرية والمساواة. ثقافة بيار كاردان، أفضل. البناء على الروائح وفضلات ومشتقات الاستغلال. ذروة العيب الاخلاقي ميزةٌ يتمتع بها رؤساء دول الغرب ومؤسساتها العابرة للحدود. هؤلاء الرؤساء والمبعوثون المهروّلون، هم إسرائيليون أكثر من سلالة الصهيونية، بدءاً من هرتزل الى النتن ياهو.
غرب سفيه وبشع.
طز بهذا الغرب. هو الاغتصاب وحامي الحروب ومرتكب الجرائم. تاريخك الاستعماري عار مجلجل. الحروب من رحمك. كاذب وقح أنت. روائح أياديكم أيّها السفلة تعبق منها الفتنة.
إلّا أن حدثاً خارقاً حصل. لا يمكن أن يصدّق إنسان سوي، أن غزة الصغرى أقوى من الأحلاف الكبرى.
غزة، ملعب كرة قدم، وأكثر قليلاً، تواجه قوى عظمى. الغرب خائف على “إسرائيل”. منع التظاهرات في بلاده. تحّدوه. وقفوا الى جانب أصغر عمالقة هذا الزمن. غزة الكبرى، ضد العالم المختبئ في خوفه..
لقد التصقنا بهذه الأرض. أرضنا لنا. سماؤنا لنا. شعرنا لنا. وكل نبض فينا. نحن حبر الأرض وصبرها وغضبها. لا وقت عندنا لدفن قديسينا وقديساتنا وأطفالنا.. هل تعرفون السبب. انهم أحياء عند ربهم وعند شعبهم يرزقون…، نعيش معاً، نقاتل معاً، نحيا معاً، ثم لا نموت وحيدين.
فلسطين اليوم، قداس الدم وهي ديننا الأرضي. وأول ما في هذا الدين: الحرية. و”للحرية الحمراء بابٌ/بكل يدٍ مضرّجة يدق”.. “دم الثوار تعرفه فرنسا/وتعلم أنه نور وحق”، كما يقول شاعرنا الكبير أحمد شوقي.
الحرية راية البقاء. من دونها فليذهبوا الى الجحيم. لسنا ركاماً حضارياً أبداً، ولن نصبح ركاماً حديثاً..
أبواب الحرية ليست موصدة. أفق التحرير قريب. ألم تتعلموا بعد أن عملاقاً صغيراً جداً، يواجه أكبر وأضخم وأعتى جنودهم. إيمانه نبوّة جديدة غير مسبوقة.
لا تروّجوا آلامنا. الشعوب، باستثناءات قليلة رفعت رايات فلسطين. علمها أرعب السلطات في الغرب وأخرس “الأشقاء العرب” (رجاءً غيروا هذه العبارة، هؤلاء ليسوا أشقاء أبداً. هم من سلالة بروتوس).
لا كلام الآن، عن الألم، الرعب، العذاب، الجراح، الأطفال، أعداد الشهداء، الجوع، المرض.. عن تحويل غزة الى مقبرة.
يوماً ما، لا بد من إنشاء متاحف القتل. الهولوكوست أقل من كارثة تحويل غزة الى محرقة.
كم حبة مهدئ احتجت؟
ما زلت حتى اللحظة، أحترف البصبصة كي استرق السمع لدموع الأمهات والفتيات والفتيان والرجال.
مرّ الزمن الذي كنتم فيه تخيفوننا.
اليوم، غزة تخيف.
أما أنتم يا عرب الفداحة، فنقول لكم: إن شعباً لا تخافه سلطته هو شعب جبان. أو مجمّع ديناصورات.