يجمع معشر أهل الصحافة والإعلام، على مختلف مشاربهم السياسية والفكرية، على الشغور الذي خلفته الزميلة “السفير” في فضاء الصحافة المكتوبة اللبنانية والعربية بعدما كان القراء ينتظرون لمس سطور صفحاتها وقرءاتها على مدار أربعة عقود من “المانشيت” الى الصفحة الاخيرة التي حملت عصارة أفكار مجموعة من الزملاء وبصماتهم وعلى رأسهم ناشرها وقبطانها الاستاذ طلال سلمان. لا يحتاج اسمه الى أي مقدمات أو شرح أو مديح من جراء ما تركه من كتابات ومقالات قيّمة في هيكل أحجار عمارة الصحافة المكتوبة حيث كان في مقدم روّادها الكبار في آخر نصف قرن. نشأت الجريدة بعد تجربة طويلة لناشرها في أكثر من مؤسسة الى أن قرر بعدها إصدار “السفير” بعد تلقيه مساعدات مالية من ليبيا بعد محطات غنية له في الصحافة. ونشأت علاقة خاصة بينه وبين معمر القذافي مع توجّه الأخير الى إصدار صحيفة في بيروت تنافس “النهار”. لا يؤكد الزميل فيصل سلمان هذه الرواية لكن العقيد أراد جريدة قومية عربية في بيروت، ورفعت شعار “صوت الذين لا صوت لهم” وكانت جريدة لبنان في العالم العربي وبالعكس.
وانطلقت أغصان شجرة “السفير” عشية الحرب الأهلية مع زحمة المد اليساري العربي وخشية اليمين من تمدّده آنذاك. وولد عددها الاول في 26 آذار 1974 حيث كان البلد يغرق في موجات القتال وفي عز أيام “الحركة الوطنية” بزعامة كمال جنبلاط حيث فتحت الجريدة صفحاتها للأحزاب اليسارية والقومية. واستقطبت نخبة من الكتاب اللبنانيين والعرب القادمين من تجارب عدة. واحتضنت أفواجاً من صحافيين مخضرمين تتلمذت على أيديهم نخبة من الزملاء في مدرستها التي تخرج منها صحافيون احتلوا في ما بعد مواقع مهمة في الصحافة الخليجية.
وتمكنت “السفير” من فرض حضورها على المشهد الصحافي من الاسبوع الاول حيث عملت على التعبير عن أجواء اليسار ومشروعه. وكان لها سبق الريادة في هذا المضمار حيث تصدرت المشهد السياسي على مساحة كبيرة من البلد ناطقة باسم القوميين العرب بعد أربع سنوات على وفاة جمال عبد الناصر ومرور سنة على حرب تشرين 1973. ولم تحمل طابعاً حزبياً، وبقيت حريصة على تراث الناصرية مع انفتاح كتابها ومحرريها على جملة من الافكار والايديلوجيات. بعد أقل من سنة على صدور عددها الاول دخلت في أتون الحرب بعدما سيطرت لغة النار والمدفع على المشهد في البلد، إلا أن سلمان وفريقه الصحافي أرادوا أن يثبتوا أن ثمة موقعاً لأقلامهم التي لم ترضَ بطمسها وانكسارها الى جانب زملاء في مؤسسات أخرى في مقدمها “النهار” حيث نشأت علاقة خاصة جمعت سلمان والأستاذ غسان تويني.
ولم تقصّر “السفير” في عكس مشاريع أصحاب الافكار التي تمثلها وسقوط شهداء وسط فترات قاسية اجتازتها بعزيمة كبيرة حيث كان الزملاء ينامون في الجريدة وهم يتحدون أنفسهم لصدور العدد فجر كل يوم. وعند دخول العامل السوري على البلد وتأثيره على الصحافة والحريات لا يخفى أن علاقة دمشق مع الجريدة لم تكن في البدايات بحسب أهواء الرئيس حافظ الأسد الى أن التقاه سلمان وأجرى حديثاً معه لتستقيم تلك العلاقة بعد جملة من الخلافات بين صحيفة مؤثرة ودولة أرسلت جيشها الى لبنان.
من المحطات التي لا تُنسى في رحلة “السفير” اجتياح إسرائيل لبنان عام 1982 ووصول جيشها الى قلب بيروت والتمترس عند مدخل الصحيفة وطرد الزملاء من مكاتبها وتوقيف آخرين من بينهم محمد مشموشي. وكان همّ محرريها الاستمرار في المقاومة الإعلامية والتصدّي للمحتل من أجل أن لا ترفع بيروت الرايات البيضاء ولو كانت تحترق. وكان هناك “ثأر” من الإسرائيلي ضد الصحيفة التي قاومتهم بأقلام لبنانية وفلسطينية وعربية، من دون نسيان كاريكاتور ناجي العلي ورسومه. ومن الصعوبة في هذه الفترة تحديد علاقة الجريدة مع ياسر عرفات حيث كانت له مقابلة في عددها الاول وكان في موقع الحاكم الأول في بيروت آنذاك وزار مبناها ومكاتبها التي لم تكن بعيدة من مضايقات مجموعات محسوبة عليه ويعتذر عرفات من سلمان “على طريقته”.
بعد اتفاق الطائف وانفتاح المناطق بعضها على بعض لم تقصّر “السفير” في محاولات التوجّه الى الآخر والمقصود به هنا القارئ الذي لم يلتق مع توجهاتها. ولم تقفل صفحاتها على أصحاب هذا الخط بل شرّعتها لمثقفين وكتاب لم يلتقوا معها من وزن الشاعر سعيد عقل وغيره وإن لم يتقبّلهم زملاء قدامى في الصحيفة كانوا على مدار كل تلك السنوات يقفون في وجه اليمين السياسي. وخاضت الصحيفة جولات وصولات مع “الجبهة اللبنانية” ولا سيما مع حزب الكتائب حيث وقفت بالمرصاد لعهد الرئيس أمين الجميّل.
وشكلت “السفير” رافعة لمقاومة المحتل الاسرائيلي منذ انطلاقتها، وبقيت على هذا المنوال الى موعد تحرير الجنوب في أيار 2000 وفتحت صفحاتها للمقاومة ورأت في السيد حسن نصرالله القائد اللبناني والعربي، وخصّه سلمان بسلسلة من المقالات. ولازمها خيار نصرة فلسطين والمقاومة من عددها الاول الى يوم إقفالها. بعد كل هذه المسيرة لجريدة احتلت موقعاً متقدماً في لبنان أقفلت صفحاتها وأطفأت الأنوار في مكاتبها وأعطت مطبعتها إجازة مفتوحة لعدم قدرتها على تأمين النفقات المالية مع تراجع أعداد القراء فضلاً عن أسباب خاصة تخصّ ناشرها. وصدر عدد الوداع والأخير الأربعاء 4 كانون الثاني 2017 وتصدّرت الصفحة الاولى مقالة لسلمان بعنوان “السفير 13552: تغيب.. ولا تنطفئ!
نتذكر كلنا “السفير” هذا المفاعل الإعلامي الذي وزع إشعاعات فكرية حيث غطت صفحاته وإنتاجه في مختلف الحقول مساحة لبنان والعالم العربي ونشعر بفراغ أحدثته. وعن تلك الرحلة يكتفي فيصل سلمان بهذه الجملة “سقى الله تلك الأيام”.
يرقد طلال سلمان اليوم في المستشفى بعد وعكة صحّية. أطال الله في عمره بعد هذه المسيرة الرائدة والاحترافية له في الصحافة التي شكل أحد أعمدتها الرئيسيين في لبنان والمهووس الى حدود الشغف بمطاردة الأخبار ليحجزها في أحضان “السفير”. ويبقى السؤال والخبر الأصعب على قلبه الذي لا يفصح عنه ولا ينشره وهو يسمعه في لبنان ودنيا العرب بعد إقفال صفحات عشيقته: “لماذا أقفلت السفير”؟
رضوان عقيل