حتى وأنتَ في أقصى الأرض، يطاردك وجعك، بالصوت والصورة الملونة:
بلادك بكل ملايينها الكثر، وأهلك بكل أحلامهم والتضحيات والشوق إلى الغد مجرّد »أخبار أمنية«،
أما الأخبار السياسية فلأصحاب القدرة على صنع الأخبار وتقرير المصائر للضعفاء والقاعدين يثرثرون ظلاماتهم ولا مَن يسمع.
أنت الماضي، منه وفيه، وممنوع عليك مغادرته،
أما المستقبل فلمن يقدر فيقرِّر وينفِّذ اليوم، معلنù مسؤوليته عن هذه المنطقة، إن لم يكن بقوة الملكية التاريخية فبوضع اليد القوية التي لا مجال لرفعها، فلا بأس إذن من أن تقبِّلها وأنت تدعو عليها بالكسر كما علَّمتك حكمة المتخاذلين من قبلك!
ولأنك الماضي، فأنت »الخارج« الذي يهدّد »الداخل« المستقر والمندفع إلى صنع الرخاء والإسهام في التقدم الإنساني!
أنت المخرِّب والتخريب، أنت الإرهاب والإرهابي، أنت المتطرّف والتطرّف، أنت التعصّب والمتعصِّب، أنت عدو الحضارة ومفجِّر مسيرة »السلام« والازدهار الاقتصادي العميم!
* * *
بين كل جولتين لهذا المسؤول الأميركي (أو الروسي!!) أو ذاك في المنطقة يذهب بعض الجنوب: يشتد الحصار البحري الذي تفرضه إسرائيل على الساحل ما بين الناقورة وصيدا، ويعنف القصف الجوي والأرضي للقرى والبلدات والمدن والجبال والتلال في جبل عامل.
تضرب إسرائيل مستدرجة ردّ الفعل الذي لا بدَّ أن يصدر عن المقاومة، فترتفع أصوات مسؤوليها وهم يردِّدون: أرأيتم أن الخطر علينا إنما يجيء من »الخارج«! إذن فلا بدَّ من القضاء على »حزب ا”«. وللقضاء على هؤلاء »المخرّبين« فلا بد من أن تثبت السلطة المركزية في بيروت قوتها بفصل مسارها التفاوضي عن المسار السوري… كذلك فلا بدَّ من أن تثبت سوريا حسن نيتها بتدمير »حزب ا”« وإعلان الحرب على إيران، ومن ثم تسريح جيشها والذهاب إلى واشنطن للاحتفال بالتوقيع على »السلام« في حديقة الورود بالبيت الأبيض.
إذن فالخارج يبدأ من جبل عامل ويتدرّج نزولاً نحو بيروت ثم يصعد قاصدù دمشق وينتهي مبدئيù في طهران،
… وتنفجر السيارة المفخَّخة بحافلة المستوطنين في الطريق بين غزة ورفح بفلسطين، ويسقط أكثر من أربعين مستوطنù إسرائيليù بين قتيل وجريح،
فماذا يكون ردّ الفعل الإسرائيلي؟!
يؤكد على مسؤولية »الخارج« عبر موقفين محدَّدين:
يجدِّد اتهامه لطهران، معزِّزù تحريضه اليومي لواشنطن ضد »بعبع الإسلام« الذي ترعاه وتصدّره الجمهورية الإسلامية في إيران،
وفي الوقت نفسه يعلن شمعون بيريز أن قطاع غزة يكفي لقيام »الدولة الفلسطينية«، بل هو أكثر من حاجتها،
على هذا فإسرائيل هي دولة الفلسطينيين، سواء أكانوا في غزة ذاتها، أم في الضفة الغربية التي تكاد تكون أرضها مصادَرَة بكليتها، أم في مملكة الحسين، حيث لا بأس من بقاء العرش كحرس حدود أمامي للدولة المركزية: إسرائيل، بينما يقوم عرفات بدور حارس الحدود الخلفي!
* * *
لكن أحمد قريع يرفع صوته بالشكوى:
فحالة الناس في غزة اليوم هي أسوأ مما كانت وهي تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر!
و»البطل« الثاني لاتفاق أوسلو يطالب، الآن، إسرائيل، بفك حصارها الاقتصادي عن غزة، والسماح لسلطة الشرطة فيها بأن تتعامل تجاريù مع البلاد العربية، وبألاَّ تفرض عليها بضائعها!
وأحمد قريع، هو في نهاية المطاف، خارج الداخل، أو داخل الخارج، وهو أكثر من الإسرائيليين خوفù إذ يعيش بين همَّين: الداخل والخارج، وهما في فلسطين بغير حدود!!
* * *
من جنوب لبنان إلى شمال العراق، من ميدان التدريب بالذخيرة الحية وعلى الأهداف الحية للجيش الإسرائيلي، إلى ميدان التدريب بالذخيرة الحية وعلى الأهداف الحية للجيش التركي.
بعد أربعة أسابيع من حملة التأديب »السلطانية« التي أعطيت اسم »الفولاذ« وحشد لها »الصدر الأعظم« طانسو تشيللر أكثر من أربعين ألف جندي، يتقدمون بطوابير من الدبابات اللامعة في لحم العراق، تحت غطاء جوي كثيف تؤمِّنه أحدث القاذفات الأميركية بحراسة أحدث المطارِدات الأميركية،
وبعدما فتّش جنود السلطان كل مغارة وكل كهف على امتداد جبال كردستان العراقية، وفقù لمعلومات المخابرات العسكرية التركية التي لا تخطئ،
وبعدما تمَّ تخريب القرى الفقيرة وتدمير البيوت المصنوعة من الطين، وقتل البؤساء من الأكراد الذين كانوا يفترضون أنهم قد نجوا من بطش صدام حسين، فطالهم سيف السلطنة الطويل…
بعد ذلك كله، اكتشفت الحكومة التركية، ومعها قادة جيوشها، ورجال مخابراتها الأفذاذ، ان قادة حزب العمال الثوري الكردستاني، قد عرفوا مسبقù بخبر الحملة الهمايونية، قد هربوا متسللين إلى سوريا!
إذن، فالدور الآن على سوريا، توكيدù على أن تركيا المسلمة والصديقة للعرب لا تفرِّق بين عربي صديق وعربي صديق آخر، خصوصù وأن الدين الحنيف يظلِّل بأفيائه العطرة المؤمنين جميعù: أفليس المسلمون أخوة؟!
الدور على سوريا… والطوابير التركية الفخمة على الحدود، لا تحتاج إلا إلى أمر بتغيير وجهة سيرها حتى ترتاح أنقرة من آخر كردي ومعه آخر عربي!
ولأن العمل العسكري المباشر قد يكون مكلفù بحيث إن التحرك إلى »الخارج« هذه المرة قد يذهب ب»الداخل« فلا بأس من اللجوء إلى السلاح الأخطر والأعظم تأثيرù من السلاح النووي (الإسرائيلي): وهكذا ارتفعت أصوات قيادات تركية مطالبة بضرورة استخدام سلاح المياه ضد سوريا، أي بقطع الفرات عن مجراه الدولي الطبيعي: من تركيا إلى شط الفرات في العراق مرورù بسوريا!
* * *
العدو في »الخارج« دائمù، والخطر إنما يجيء من »الخارج«.
»الداخل« هو الأمان المطلق، لكن التخريب يجيء عبر الحدود، وإلا فلا بد من الذهاب إلى قواعده في »الخارج« لاستئصاله!
لا مشكلة لإسرائيل في »داخلها« الذي كله »خارجها«،
فالفلسطينيون في فلسطين »خارج«، واللبنانيون في لبنان »داخل«، والسوريون في سوريا »داخل«، وحتى الإيرانيون في إيران »داخل«.
الفلسطينيون في فلسطين »خارج«. لكن فلسطين هي »الداخل«، فأين الحدود بين الداخل والخارج؟!
وبيريز يقول بدولة فلسطينية في غزة، ولكن غزة مثل الضفة. لا يمكن أن تكون »الخارج«،
وشمال العراق »خارج«، لكن أكراد تركيا هم »الداخل«، فكيف يمكن أن تحلّ مشكلة فقرهم واضطهادهم العرقي (كما الفلسطينيون) في الخارج؟!
وإذا ظلَّ »الخارج« يتوسَّع بمطاردة علل »الداخل« بالعسكر، والامتناع عن علاجها فإن الحرب مرشحة لأن تطول ولأن يتسع ميدانها حتى يغطي العالم كله،
وتركيا تمشي على خطى إسرائيل وترى نفسها مؤهلة لأن تحارب العالم كله وتنتصر،
لكن العرب يستسلمون وهم في »داخلهم«، برغم الخوف من »الخارج« القوي!
والهزيمة من الداخل لا علاج لها، تمامù كالحرب في الخارج لحلّ مشكلة الداخل،
وفي النتائج فقط يتساوى العرب والأتراك، وإن كان العرب في موقع الضحية،
أما إسرائيل فلها حساب أميركي آخر!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان