غداً، السبت في الأول من حزيران 1996، لبيروت موعد مع عبق الشهادة ومجد الصمود يستبق ذكريات الهزائم الحزيرانية وأحزانها العميقة.
الحزن خبزنا اليومي، يسهر معنا ويسبق الصباح إلينا فيظلله بعتم الخيبة والعجز…
لكن أعمارنا ليست حاصل جمع أيام السقوط والانكسار.
ومع ضعفنا فإننا نقدر، لو أردنا، ونستطيع أن نصمد وان نعمل لكي يجيء الغد بإشراقة تذهب ببعض الليل الساجي.
غداً، نتلاقى في ”عرس قانا”.
لعرس قانا القلم والريشة، العدسة والعين، الصوت والنغم والأغنية لذكرى الذين حرمهم ”قاتل الأطفال” فرح الحياة.
وإلى عرس قانا يجيء المبدعون من كل أرض عربية لينتسبوا إلى الأرض المعطرة بنجيع الشهادة، إلى الممزقة أجسادهم والباقية في الأرض هوية لها، والزارعين أهدابهم في التراب حرساً..
إلى عرس قانا يجيئون.
من المنافي العربية يجيئون، يتخطون أسوار الصمت والعجز ويقولون: لا.
من شتات العذاب والغربة والعوز إلى الكرامة والخبز يجيئون ليقولوا انهم ها هنا يحيون بأفكارهم، بأحلامهم، بعواطفهم.
بعضهم يكاد يحسد الشهداء ولو مقطّعةً أوصالهم ومنثورة أحداقهم في فضاء القتل المقصود.
الكل يقول بمشاركته، بتبرعه من قبل أن يسأل: لسنا في الخارج، نحن في داخل الداخل. لقد أُخرجنا ولم نخرج وما زلنا نطلب باب العودة من غير أن نفتقد إنسانيتنا وقدرتنا على أن نعطي فناً لكل الناس.
لم يتردد أحد، لم يسأل أحد عن حقه في نتاجه، الكل يريد أن يعطي ولكن السؤال: لمن؟! وكيف يضمن أن ما يعطيه سوف يصل إلى العنوان الصحيح؟!
إلى عرس قانا يجيئون.
يجيئون ليغنوا قانا، ليغنوا الشهادة والشهداء، الصمود والصامدين.
يجيئون ليغنوا للأرض، لعطر زهر الليمون، للمبارك شجر الزيتون، للناس الذين لم يغادروا أنفسهم، لم يرموا بتاريخهم إلى الإهمال، لم ينسوا أسماءهم ولا بعثوا بنسائهم ليلدن أطفالاً لبلاد الأغراب.
لقانا الآه والعتابا وغنة الرباب وصهيل العود ونمنمات القانون،
لقانا سورة مريم والنغم الحي وأذان المغرب ورنين أجراس الكنائس مبشرة بالعيد.
عرس قانا في مسرح المدينة غداً السبت: يستحضر قانا إلى بيروت.
لم تعد قانا قرية تائهة في الجنوب.
صارت قانا دنيانا ورايتنا.
وبيروت حاضنة الشهداء وقلعة الصمود تستحضر قانا في قلبها، تفسح لها فيه ساحة.
وقانا الحاضرة الآن في كل عاصمة عربية لا بد من أن تهبط من فضاء العاطفة الى الأرض، وأن تشرف باسمها الساحات والشوارع.
وفي بيروت البداية، ولسوف تكمل قانا مسيرتها داخل الذاكرة العربية حتى تصل كل بيت فتستقر فيه مع من حوله.
الموعد…
على الشرفة في الدور العاشر من ذلك الفندق الفخم يقف في قلب الليل.
أهو في قلب الليل أم الليل في قلبه وهو يقف وحيدا، مثقلاً بالحزن في منفاه الصحراوي حتى عند شاطئه الطويل؟!
حاول إشغال نفسه بالمشهد الذي كان يمكن أن يراه جميلاً، بل ساحراً، لو أنه في مكان آخر، أو لو أنه جاء إليه بالرغبة، أو لو كان معه من يؤنس غربته وشعوره بأنه منسي ومهمل ككل الناس والأشياء هنا.
في آخر المشهد كان البحر حقيقيا: غامضا، مهيبا، ممتدا حتى نهاية الأفق، وأشباح بواخر تبدو كأنها مزروعة فيه، وتخال أنها ثابتة لا تتحرك، فإن اكتشفت بعد حين تغيراً في موقعها لم تعرف بالدقة هل هي آتية إلى الميناء الباهر الأنوار تحتك أم هي ماضية إلى مقصدها في البعيد.
زعق به ضيقه: وأي فرق بين أن تكون ذاهبة أو آتية؟!
هل تعنيك وجهتها، أم شحنتها أم يعنيك أمر ركابها؟!
سحب نظره من البعيد وتركه يغرق في ساحة النور الباهر، الميناء الساكن كل شيء فيه، البحر والأرصفة والمراكب الصغيرة وأخيلة السفن الكبيرة عند بداية اتصاله بالبحر.
أغرق بصره في بحيرة النور، أمامه.
أضواء المصابيح تنعكس أعمدة مشعة فتخترق العتمتين وتعيد تشكيلهما مربعات ومستطيلات تتماهى تخومها على حوافي الضوء المتلاشي وسط الزرقة الداكنة.
هبّت نسمة رقيقة فانتعش، وزاده انتعاشاً ما استولدته النسمة من تشكيلات جديدة فوق صفحة الماء المشتعل ضياء.
انتصبت أعمدة النور الآن أشرعة.
دغدغت النسمة الأشرعة فبدت كأنها تتحرك.
بدأت الرحلة، إذاً، هنيئاً للمسافرين!
تنهد بحرقة، لقد نسي زمن وصوله مستدعى الى ”موعد عاجل” هنا، ولا يعرف موعد المغادرة.
تعايش مع الضجر حتى تلفت أعصابه.
انتظر الرنين السحري لجرس الهاتف كمن ينتظر وعد العمر.
جرّب كل المقاعد في غرفته، في صالة الفندق، على الشرفة، ومن حول المسبح.
مشى حتى تعب، ووقف حتى ملّ منه موقفه، وجلس حتى سئمته المقاعد جميعاً وسئمها.
صار للصباح تقاليده: يستفيق متعجلاً، ويعد نفسه بتأنق مبالغ فيه وكأنه ذاهب الى قصر ملكي صارم التقاليد، ويستغني عن الفطور حتى لا يؤخره… ثم متى صارت الساعة العاشرة، رفع السماعة وأدار قرص الهاتف ليستمع الى ما بات بالنسبة إليه شريط تسجيل يعيد ذاته:
أهلاً وسهلاً، كيف حالك اليوم؟ عساك لا بأس؟! هل ينقصك أي شيء؟! الأخ الكبير أبلغنا عظيم تقديره لك. وأنت في بيتك ولست ضيفاً، فلا تتردد في طلب أي شيء… هل الخدمة في الفندق جيدة؟! كلهم يعرفون مكانتك لدينا وهم بدورهم يقدرونك؟!. الحمد لله أنك مرتاح… راحتك هي أكثر ما يهمنا…
في البداية كان يؤخذ بهذه المجاملات، فيكاد يخجل من السؤال عن موعده، لكنه بعد ثلاثة أيام تجرأ فقطع شريط المجاملة بشيء من الارتباك:
ولكنني جئت على موعد..
طبعا، طبعا، وسيتم اللقاء، بإذن الله، كلنا ننتظر الاشارة. لكن الأخ الكبير في الصحراء، وهو يتحرك باستمرار، فلا نعرف الى أين نقودك إليه. انه، على أي حال، في الطريق إلى هنا، فاطمئن.
أنا مطمئن، لكن الوقت..
لن يتأخر، إن شاء الله،
تعرف، لكل إنسان ما يشغله،
يا رجل، اعتبرها إجازة.
شكراً، للإجازة برنامج مختلف.
لا تقلق، سنتصل بك فور ورود أي إشارة منه.
بعد اليوم الخامس بات الحوار عصبياً وقصيراً:
لا جديد؟!
… هل وصلتك الصحف والمجلات؟!
في اليوم السابع جاءه الرد اقتراحاً بجولة سياحية.
هو الآن في أي يوم؟!
أخذ يستعيد الأيام. لقد وصل يوم… الثلاثاء؟ لا بل الأربعاء؟ ربما الاثنين؟!
قفز إلى حقيبته لينظر في جواز سفره، لكنه قبل أن يصل إليها صعقه رنين الهاتف:
إنه هكذا، يعيش ويفرض على الآخرين أن يعيشوا على المفاجآت!
قال لنفسه وهو يرفع السماعة ليرد… لكن ”الآلو” انحبست في حلقه وشعر بالعرق ينبثق غزيراً من جبينه وهو يسمع صوت امرأة:
لن تستطيع أن تهرب منا ولو رحلت الى أقصى نقطة في الأرض.
رد من دون تفكير: وصلتِ.. أنا فيها الآن فعلاً!
ونحن هنا لحضور اللقاء الثقافي غداً، وأنت، كما فهمت، ضيف شرف فيه.
شده الصمت إلى أحضانه، مجدداً، فأكملت بلسان امرأة الآن:
أنهكتك وحدتك حتى نسيت أن ترحب بي…
بل هي المفاجأة.
أتنزل إلينا أم نصعد إليك؟
تردد: يصعدون؟! من ومن ومن؟! ام أنها تعتبر نفسها ”جمعاً” فتحكي بلسان ”نحن”؟!
مسحوق بالوحدة والتعب والانتظار، أيها الطيب، سأصرفهم لأي سبب وأصعد إليك… لا أطيق أن أتركك لحزنك وحيداً!
ليس هو الحزن، بل الاحتجاز ومنعي من السفر إلا بعد الموعد الذي لا يجيء.. لعله القرف، لعلها الرغبة في تغيير المهنة، لعله هوس الاستقالة من هذا العالم العربي المتخلف!
لن نستمر في هذا الحوار الموجع عبر الهاتف، افتح لي الباب حتى لا أضطر الى قرعه.
دهمه الخوف الآن، خوف كثيف كعتمة كانون الثلجية. لم تترك له فرصة للرد أو للاعتذار، أو لإبلاغها بأنه سينزل الى الصالة تحت.
من أين جاءت هذه الزميلة المسترجلة والمقتحمة والتي لا يمكن أن يوقفها شيء؟!
قبل دقائق كان مستعداً لأن يدفع سنة من عمره مقابل أن يتفرج على النساء يختلن في الشارع مثلاً، بعطرهن والفساتين المفتوحة من فوق والمشقوقة من تحت.
بل كان مستعداً لأن يستمتع بمشاهدة شريط سينمائي، على شاشة التلفزيون، فيه نساء يلعبن لعبتهن الأبدية الممتعة: الحب.
لعله في لحظات كان قد تواضع في تمنّيه فأعلن انه يرضى بأن يصافح سيدة، ويجلس في قاعة الترانزيت في مطار، فيه نساء كما فيه رجال، بدل أن يبقى حبيس المشهد المتكرر للجنس الواحد.
لعله كان مستعداً لأن يرضى بأن يلمح من شرفته شبح أنثى تتهادى في الشارع داخل أثوابها المزركشة الكثيفة التي لا تتيح للرؤية منها غير جانب من الخد الأعجف وعين كليلة.
كان يحتاج برهاناً على ان الجنس البشري ما زال يتكون من ذكور وإناث.
أخرجه قرع خفيف على الباب من هذه التداعيات التي كانت أنسته المصيبة التي ستهبط عليه بقوة دفع المصعد الكهربائي.
فتح الباب بحذر فدفعته برفق لتنسل منه ثم تغلقه بعد جولة بعينيها على الممر للاطمئنان، ومن خلال اطمئنانها الى انها وصلت أخيراً الى مقصدها، همست بعينيها قبل شفاهها:
ألن تعانقني مرحباً؟!
تقدم آلياً في اتجاهها، ومد يده مصافحاً، وهو يتأتئ ببعض كلمات التحية والشوق، لكنه سرعان ما سقط أسيراً بين يديها الملتفتين على عنقه وأنفاسها تكوي وجهه. كانت رائحة الخمرة نفاذة: من أين أتت بالشراب، هذه الماكرة؟! ربما من الطائرة. إذاً من الطيار! هل أغوته قبلي؟!
سألها، لكي يفرض موضوعاً آخر للحديث: من معك؟
شدت من حصارها، وقالت عبر لهاثها المتقطع: ثلاثة، كلهم ممن لا تعرف، يمكن أن تنساهم حتى الغد، هم أكدوا أنهم لا يريدون إزعاجكم الليلة، ألا أغنيك عنهم؟!
لا يدري لماذا انسحبت رغبته كجيش مهزوم، لماذا ضاق صدره فكاد يعجز عن التنفس، ولماذا دهمته نوبة من البكاء.
القهر قهران، الآن.
لا تتعايش الرغبة مع القهر. أحس ان رجولته قد رحلت بعيداً، وأنه أسير في معتقل يتناوب عليه الجلادون، وأن الآخرين يحاولون أن ينتزعوا منه إحساسه بقيمته وأن يعطلوا إرادته وأن يصيّروه مجرد أداة.
تملص منها بشيء من العنف، مندفعاً الى الباب، فتحه وقال وهو يسوي ربطة عنقه: هيا نسلم على الإخوان، عيب ان يكتشفوا غيابك عنهم، وأن أجعلهم ينتظرون تحية مني حتى الصباح.
تقدم الى المصعد، ولكنها عند بابه قالت في ما يشبه الفحيح:
إذهب الى الواجب، شخصياً أفضل النوم، ومتى تذكرت إنسانيتك تعال إلي وإلا فاذهب الى الجحيم أيها البغل!
حوار الصوت والصدى
أسمع صدى صمتك حاداً يحفر في أعصابي حيثما ذهبت.
أتوهم أحياناً انه ينبعث من المذياع فإذا ما أسكته امتد الصدى كأفعى تسعى في صحراء، لا هدف لها إلا من أو ما يحدد نفسه هدفاً.
يطاردني صدى الصمت في كل مكان. أحسه ينسرب من السقف، يجيء مع النسيمات المثقلة بالرطوبة من النافذة يتهاطل لزجاً من المصباح وينتشر في الغرفة. ينبثق من بين سطور الكتاب، وأحياناً ينشق عنه رأس قلمي فينسكب بقعة زيت تأخذ بالانتشار والتمدد حتى لا يتبقى في الورقة مكان لحرف.
كيف يناقش الصمت؟!
كيف يحاور الصدى؟!
كيف يتناقش أخرس مع أعمى؟!
كيف يتحاور الصمت مع صداه؟ وكيف تتسامى الأنانية لكي تصبح حباً فلا تظل تسحق الكلمات من قبل أن تقال وتسحب الصدى حتى يفرغ الصمت من معناه فيصير عدماً.
أنانيتان لا تصنعان حباً.
أما البغض فتكفيه أنانية واحدة.