شكّل النجاح في عقد »مؤتمر الحوار الوطني« في بيروت مفاجأة طيبة للعرب عموماً الذين يظهرون أو يتبدى لهم أحياناً كأنهم يحبون لبنان أكثر من أهله المباشرين ويحرصون عليه ويحاولون حمايته من ظلم أبنائه.
ولطالما شكا العرب من »اضطهاد« إخوانهم اللبنانيين بلدهم الجميل بينما هم يجدونهم وهم في ضيافتهم مشرقاً ومغرباً نماذج ناجحة للنشاط والحيوية، وأحياناً الإبداع وعلو الهمة، كما يرونهم في علاقة بعضهم بالبعض الآخر نموذجاً يحتذى في الأخوة تكاتفاً وتضامناً ووحدة حال.
لقد استعاد اللبنانيون، بمجرد انعقاد هذا المؤتمر »السهل الممتنع« الذي ضم القيادات السياسية الكثيرة الخلافات المتعددة التوجهات، شيئاً من اعتبارهم في عيون أخوتهم العرب الذين طالما أخذوا عليهم نقصاً في وطنيتهم نتيجة تغليبهم مشاعرهم وغرائزهم الطائفية والمذهبية على المصالح العليا لبلدهم الأصغر والأضعف من أن يتحمّل مثل هذه الضغوط القاسية وغير المبرّرة.
وليس سراً أن العرب، على اختلاف انتماءاتهم، يرون في استقرار لبنان، وفي ازدهاره، نجاحاً لهم: لقد حفظوا »صغيرهم« المفتوح على كل التيارات، فكراً وثقافة وتجارة وتطوراً اجتماعياً.
بل إن هؤلاء الأخوة العرب لم يصلوا بعد إلى فك الطلسم المتمثل في أن اللبناني ما إن يغادر لبنان حتى يصير قدوة في التسامح والرقة ونبذ التعصب، حتى إذا ركب طائرة العودة استعاد »غرائزه«، كأنه قد استبقاها في المطار لينقلب مع وصوله إلى فرد في تنظيم طائفي أو في ميليشيا مذهبية.
في أي حال، فإن العرب عموماً قد تنفسوا الصعداء، شأنهم شأن أخوتهم اللبنانيين، عندما تلاقت القيادات والمرجعيات في مؤتمر الحوار الوطني، فتعارفوا وتصافحوا مبتسمين، وكاد بعضهم يعانق البعض الآخر، ثم جلسوا إلى الطاولة المستديرة يعرضون خلافاتهم والمسائل التي فرّقت صفوفهم وكادت تدفع بجمهور اللبنانيين إلى التمزق والاحتراق بنار فتن ليس ثمة ما يبرّرها، ولا سيما أن الجميع سيخرج منها خاسراً، وهذه تجارب التاريخ أمام مَن يريد أن يفهم فيتعظ ويحفظ نفسه بوطنه.
ثم إن العرب يرون أنفسهم داخل المؤتمر وليس خارجه، وهم لا يخفون انزعاجهم من أدوار »الدول« التي عملت كل ما بوسعها لتحريض اللبنانيين بعضهم ضد البعض الآخر، تارة باستخدام »حقوق الطوائف في التمثيل المناسب لدورها وليس لعديدها«، وطوراً باستخدام »الشبح« الفلسطيني، ودائماً بالتهديد »بعودة السوريين إلى التحكّم بمصير لبنان«، مع التنويه دائماً »برقي لبنان مقابل التخلف السوري«!
ويعرف العرب أن عليهم ولا سيما دولهم الكبرى والأعظم تأثيراً دوراً حيوياً وأساسياً لتثمير هذا المناخ التوافقي، أو فلنقل مناخ وعي كل طرف بالحدود القصوى للتنازل عند الطرف الآخر، في صيغة اتفاق وطني جديد يستلهم روح الطائف ودستوره مع استدراك النواقص فيه ولحظ الإضافات التي قد تكون ضرورية إليه، من أجل إعادة ترسيخ الوحدة الوطنية على قواعد لا يأتيها التشكيك أو التظلم لا من خلفها ولا من أمامها.
خلاصة المنطق العربي ببساطة: فليتوافق اللبنانيون على ثوابتهم ونحن نوفر لها الضمانات المطلوبة.. لن نتدخل في شؤونهم الداخلية، ولكننا جاهزون لبذل الجهد من أجل إعادة صياغة عملية للعلاقات اللبنانية السورية على قاعدة من الأخوة تأخذ بالاعتبار مطلب اللبنانيين في ألا يُحكموا من دمشق مقابل ألا تكون بيروت مركزاً للتآمر على سوريا ونظامها السياسي.
فمن البديهي ألا يطلب اللبنانيون لأنفسهم في مواجهة النظام القائم في دمشق ما يرفضون التسليم له به، خصوصاً أنهم الطرف الأضعف… فضلاً عن أن سلامة سوريا (كما سلامة لبنان) مطلب عربي عام.
وينبّه بعض حكماء العرب اللبنانيين إلى أن لبنان قد فقد الكثير من حظوته في عيونهم، ومن تقديرهم لحيوية شعبه، عندما اندفع في »حربه« ضد سوريا بشعبها وجيشها ونظامها إلى أبعد مما يجوز، ممّا لا يقبلونه في مختلف ديارهم… فإذا كان لبنان صغيرهم الأعز فإن سوريا، بدورها القومي وتراث نضالها التاريخي، هي ضمانة لاستقرار أوضاعهم، لا سيما ان الاحتلال الأميركي للعراق المولّد للفتنة والاقتتال الطائفي والمذهبي قد أضاف إلى همّهم الفلسطيني الثقيل في عجزهم عن مواجهة الطغيان الدموي الإسرائيلي ما يجعل سلامة سوريا مطلباً عربياً عاماً وغالياً ولا يجوز التفريط فيه.
»لينجز اللبنانيون فرضهم، وسيجدون العرب جاهزين لإكمال الجهد الذي بذله المشاركون في مؤتمر الحوار الوطني وتتويجه بمبادرة عربية توفر الضمانات المطلوبة لهذا التوافق الداخلي الذي يعززه ويمكّن له في الأرض عودة العلاقات الأخوية مع سوريا إلى صفائها وإلى سابق عهدها، أي إلى ما قبل الحرب الأهلية في لبنان«.
هذا ما تسمعه من أي مسؤول عربي يعيش »حالة من عذاب الضمير«، كما عبّر بعضهم، »نتيجة لتصادم الإرادات بين اللبنانيين والسوريين، في ظل جو دولي يؤلب الأخ على أخيه، ويريد إشغال العرب بعضهم بالبعض الآخر، وكل منهم بأوجاعه ومشكلاته الداخلية، فترتاح »الدول« بينما نتعب جميعاً، وفي مختلف أقطارنا«.
… ويبقى أن تنجح القيادات الملتئمة في أحضان مؤتمر الحوار الوطني في حماية هذا اللقاء التأسيسي من جموح المتطرفين ومن شعارات التهييج التي يلجأ إليها بعض الموتورين ممّن يعيدهم الوفاق إلى أحجامهم الطبيعية، وهي لا تتناسب مع طموحاتهم أو مع أغراضهم، والبعض يقول مع ارتباطاتهم.. والله أعلم!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان