أن تجري انتخابات حرة في عالم اليوم لأمر في حد ذاته مثير ومنعش، أما أن تجري انتخابات حرة في أيامنا هذه وفي دولة بظروف الهند فأمر حقا عجيب. كان من حسن حظي أن تنشأ أول علاقة لي بالديمقراطية في الهند حين كلفتني حكومة بلادي أن أخدمها في نيودلهي. قامت بعدها علاقات أخرى بيني وبين الديمقراطية، في إيطاليا مثلا وكندا وشيلي والأرجنتين لم تترك واحدة منها في نفسي ما تركته تجربتي المبكرة في الهند. كنت صغيرا وهو سبب دافع للانبهار وكنت أيضا متشوقا وشغوفا ومحبا ومتعاطفا وكلها أسباب حاضنة للانبهار بهذه الحالة الخاصة جدا من النضج السياسي.
بعد مرور ما يزيد عن ستين عاما وجدت نفسي خلال الأسابيع القليلة الماضية مشدودا إلى دورة جديدة في حملة انتخابات برلمانية تجري في الهند. راح ظن أصدقائي في بداية الأمر إلى أنني وقد تغيرت بالمعرفة الأوسع والتجارب العديدة لن أكون شديد التعلق بالحالة الهندية. أخطأوا الظن، فالهند كانت أول خطوة واسعة وراسخة أخطوها في علاقة قوية ومتشعبة بالعالم الخارجي بعد خطوات صغيرة خطوتها وأنا طالب بالجامعة نحو علاقات سريعة بفلسطين غير المحتلة وفلسطين المحتلة والسودان وليبيا. أقمت علاقات بشعوب عديدة وانغمست في حب واحترام ثقافات كثيرة. اختلفت الهند. في الهند اجتمعت ظروف الحب والحنان مع سحر الهند وأساطيرها وسخاء الفكر والتاريخ مع عنفوان الشباب لتصل بي إلى أبواب مرحلة جديدة من مراحل التكوين. بعد الهند وأينما ذهبت أو عشت في رحلة العمر كانت الهند تطل من ناحية أو أخرى على ذاكرتي تجددها وتنعشها.
النتائج تعلن فوز حزب بهاراتيا جاناتا فوزا كاسحا وسقوط حزب الكونجرس سقوطا مدويا. لم تفاجئني هذه النتائج باستثناء معلومة هزتني إلى الأعماق، إذ جاء في الأنباء أن راهول غاندي، رئيس حزب الكونجرس وحفيد جواهر لال نهرو وأنديرا غاندي لم يتمكن من الاحتفاظ بمقعده في بلدته ومسقط رأسه في ولاية أوتار براديش. معني الخبر ومغزاه أن الشعب الهندي قرر أن عائلة غاندي أدت واجبها وآن أوان رحيلها من المشهد السياسي. أعتقد الآن وبعد تأمل أن الخبر يعني ما هو أهم. يعني نهاية طبقة سياسية استلمت حكم الهند من المستعمر الإنجليزي وقادت بحزب الكونجرس المسيرة الديمقراطية، لتتسلمها منها طبقة سياسية جديدة بجذور وأفكار وعقيدة وقواعد شديدة الاختلاف. ألم يحدث هذا في كل البلاد النامية وبلدنا منها؟
لمن يعود الفضل في أنه ما زالت تجري في الهند انتخابات برلمانية حرة؟ لمن يعود الفضل في المحافظة على النظام الديمقراطي سليما إلى حد كبير؟ أقولها وبدون تردد. الفضل في الحالتين وفي أمور أخرى يعود إلى الجهاز الإداري للدولة الذي توارث عبر أجيال متعددة أخلاقيات ديمقراطية وستمينستر وتقاليدها وأساليب إجراء مفاوضات في بلد شديد التعقيد. لاحظ مثلا أن أكثر من مليون لجنة انتخابية استقبلت حوالي أربعمائة وعشرين مليون ناخب على امتداد أسابيع الانتخاب. الفضل يعود للبيروقراطية ولكنه يعود أيضا إلى هذا التنوع الفريد في المجتمع الهندي. ففي هذا المجتمع يتوزع الهنود على قائمة بمائة وثمانين عقيدة دينية على رأسها الهندوسية يليها الإسلام ثم المسيحية. كانوا قبل وصول الإنجليز ينطقون بأربعمائة وستين لغة، اعترفت الدولة بعدد اثنين وعشرين منها بينما يرصد المهتمون اثنين وأربعين لغة أخرى. إن نسي الهنود فلن ينسوا أنهم عاشوا لسبعين عاما في دولة موحدة تتمتع بدستور لم يتعرض لتجديدات دورية، دستور وضعه الآباء المؤسسون ينص على شرطين لوجود الدولة ونهضتها، اشترط الاشتراكية والعلمانية. والشرطان الآن محل تهديد جسيم.
في نظري، ونظر مراقبين آخرين، لم ينفذ نارندا مودي تعهداته للناخبين الذين أتوا به مرتين متتاليتين بنصر ساحق لم يحصل على مثله حزب في الهند منذ أخر انتخابات اشتركت فيها السيدة أنديرا غاندي. لم تحقق الهند في عهده المنقضي هذه الأيام أي زيادة في الإنتاج الزراعي. صدق الخبراء الذين وصفوا الحالة الزراعية في الهند بالأزمة. أضف إلى أزمة الزراعة أزمة أخرى تمس كافة شعوب الهند وطوائفها. إنها أزمة التوظيف. أعرف أن كل مجتمعات العالم، أو أغلبها، تعاني من تفاقم البطالة وهي إحدى أهم المشكلات التي تسببت فيها الأزمة المالية التي ضربت الأسواق العالمية في نهاية العقد الثاني من القرن الحالي.
مرة أخرى يجرفني تعاطفي مع الهند والهنود. لا يحق لي أن أتعامل بالتحليل والبحث مع مشكلات الهند، والصين أحيانا، بأسلوب تعاملي مع إيطاليا واتحاد جنوب إفريقيا ومصر. أنا، في الحالة الهندية، أراقب سلوك نظام حكم تعلن جهة فيه، حكومية في الغالب، عن ستين ألف وظيفة خالية فيتقدم لشغلها تسعة عشر مليون مواطن، وتعلن جهة مسئولة عن التعداد والتخطيط أن الهند في حاجة إلى عشرة مليون وظيفة جديدة كل عام، وتتنصت جهة أخرى على هواتف مستخدمي المحمول وعددهم يزيد عن الأربعمائة مليون شخص فاستحقت الهند أن تكون الثالثة في ترتيب الدول في هذا المجال.
حرصت قبيل إعلان نتائج الانتخابات وفي أعقابها مباشرة على أن أراقب تصرفات السيد مودي، فللرجل أساليب في التخاطب والتعبد وازدراء المنبوذين أثارت انتباهي منذ كان حاكما لولاية جوجارات، هناك بالمناسبة حقق نسبة نمو عالية معتمدا على حزب منضبط نظاميا ومتعصب دينيا وطبقة وسطي من صغار التجار والمستثمرين. ومن هناك زحف بحزبه ليحتل الفراغ الذي خلفه على المستوى القومي، أي على كل الهند، الانسحاب المتسارع لنفوذ ومكانة حزب الكونجرس، حزب عائلة غاندي. ضحاياه، أقصد ضحايا سياسات وخطب مودي النارية منذ أيامه الأولى، كانوا المسلمون والمنبوذون من الهندوس. وبالفعل انطلق الحزب بقوة رهيبة فور أن قام المتعصبون الهندوس بحرق المسجد التاريخي، وعمره خمسمائة عام، في مدينة أيوديا معقل الكثير من الجمعيات والحركات الإسلامية ليعيدوا بناء معبد هندوسي يزعم أنه كان الأقدم في الهند عندما دمره الفاتحون المسلمون.
تابعت وراقبت مودي وهو يتأهب لإعلان الفوز. رأيته يصطحب عددا من المصورين الصحفيين في رحلة إلى الجبال حيث راح يقضي منفردا في أحد الكهوف ساعات تأمل وصلاة. رأيته يمر في قاعات مبنى حكومي ليتوقف ويصلي أمام كل تمثال يرمز إلى أحد الآلهة وأمام كل لوحة ترمز إلى مخلوق مقدس. ما أراه أمامي لا يشبه من قريب أو بعيد قصد الدستور الهندي من شرط العلمانية. هذا هو الرجل الذي يعمل بمساعدة جماهير الهند ليحل في الصورة الهندية محل جواهر لال نهرو، زعيم كل الهنود الذي كان يتفادى الظهور في صورة تجمعه بالرموز الدينية الهندوسية أو غير الهندوسية.
نجح حزب بهارتيا جاناتا لأن مجهودا ضخما بذله الزعيم مودي. قيل إن هذه الانتخابات تحولت إلى استفتاء على شخص مودي وأتفق مع ما قيل ولكني أضيف عوامل أخرى. إذ كان التفاف الشعب حول الجيش في مواجهته لباكستان قبل انطلاق الانتخابات بأيام ما يشبه الدعوة إلى التفاف مماثل حول مودي في الانتخابات وصنع صورة البطل القومي. ثم أننا لا نستطيع تجاهل دور التيارات الشعبوية واليمينية الصاعدة والحركات الدينية المتعصبة في العالم بأسره في إثارة التكاتف والتضامن داخل صفوف الأغلبية الهندوسيىة. من ناحية أخرى، لا يخفي علينا التأثير المباشر وغير المباشر للسباق بين الهند والصين على أولوية الوصول إلى مقاعد القيادة الدولية واحتلال أحدها. لا شك أن تصاعد الشعور القومي، وخصوصا المتلفح بتراث ديني وثقافي أصيل فعلا وممتد في أعماق التاريخ ومن حوله تصطف طوابير أصحاب القمصان السوداء من شباب الحزب، قد أطلق بالفعل الجني من القمقم، فإما إلى فاشية قومية ودينية أو إلى فوضى عارمة.
مستقبل الديمقراطية الهندية تحيط به الشكوك، ومن سخرية الأقدار أن يكون حاميها، ناريندا مودي، هو مصدر الخطر عليها.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق