لا حديث للبنانيين، بعد اليوم، إلا انتخاباتهم النيابية،
فبعد احتفالهم بكأس أوروبا لكرة القدم بمهرجان ناري استعادوا فيه بعض »أمجادهم« الحربية، تفرغوا لفولكلورهم الذي لا يبلى، والذي يضم مجموعة طقوسهم في النكاية والتحاقد والمباهاة والبراعة التجارية (وهم أحفاد الفينيقيين) وعبقرية التوفيق المستحيل بين المصلحة الآنية وبين الإيديولوجيا المعتقة.
التوقيت وحده يفرض شيئù من المقارنة، على صعوبة التورط فيها، بين الانتخابات التي جرت في إسرائيل قبل شهر تمامù وبين الانتخابات العتيدة في لبنان والمقرر أن تبدأ بعد أقل من شهرين لتنتهي بعد حوالى ثلاثة أشهر!
ففي 29 أيار الماضي تدخّل »مزاج« الناخب الإسرائيلي، بقوة استثنائية في مسار الأحداث في منطقتنا، فاستشعرت الدول العربية كافة خطرù مصيريù دفعها إلى ارتجال قمة طارئة في القاهرة، لم يتخلّف عنها أحد، سواء من »المهرولين« المصدومين، أم من المتقدمين بشيء من التردد الوقور، أم من المتحفظين بكبر الصمود ازاء التلاعب الإسرائيلي بشروط »العملية السلمية« تحت الرعاية الأميركية.
ومع الوعي الكامل بمعطيات اللحظة السياسية التي جرت فيها الانتخابات الإسرائيلية والتي استدعت ذلك التحول النافر، فلا بد من الاعتراف بأن »الديموقراطية الإسرائيلية« تستطيع المباهاة الآن بأنها اصطنعت حدثù دوليù وفتحت الباب لمرحلة مختلفة تمامù عن تلك التي سبقتها ولتداعيات غير محدودة داخل منطقتنا وخارجها.
بصيغة ما، يمكن اعتبار القمة العربية نفسها »ثمرة« فجة للانتخابات أو لديموقراطية صوت الواحد في المئة إسرائيليù.
ولقد كان طريفù أن تستمع إلى كبار المسؤولين العرب وهم يتحدثون بشيء من الرعب عن نتائج ذلك الحدث الإسرائيلي، فلا تعرف بالدقة: هل رعبهم من بنيامين نتنياهو وبرنامجه »الحربي«؟! أم من الآثار المدمرة للديموقراطية عند العدو، فكيف بها عندهم، لو أنها لا سمح ا” عبثت بمجتمعاتهم المستكينة لقدرها في الظلال الوارفة لحكمتهم الخالدة؟!
وبشكل ما فلقد اعترف أكثر من قيادي عربي بأن الإسرائيليين قد منحونا بديموقراطيتهم الفرصة لإعادة النظر في أوضاعنا والعلاقات في ما بين حكّامنا ودولهم..
فالناخب الإسرائيلي هو مَن قرّر، بداية، ومنذ تلك اللحظة تولى بنيامين نتنياهو مهمة اتخاذ القرار في شأننا كعرب مجتمعين وفرادى.
وبرغم التحفظ المنطقي فلم يكن بوسع أي من العرب الذين تعرف بلادهم الانتخابات، ولو شكلاً، أن يدافع عن »شرعية« مجلسه النيابي، أو أن يعتبر »التصويت« الذي يجري عندنا على علاقة بالديموقراطية، ناهيك باستفتاءات ال99 في المئة والتي رفع صدام حسين معدلاتها إلى ما يزيد عن أصوات عموم العراقيين!
أكثر من تعرّض للمساءلة، على هامش قمة القاهرة، هم اللبنانيون، ربما لأنهم بالنسبة للعرب عمومù القدوة، أو الطليعة في مسألة الأخذ بمبدأ الانتخاب المباشر والديموقراطية ولو مازجها في غالب الأحيان الكثير من معطلات الديموقراطية، كالطائفية والمذهبية والإقطاع السياسي والإشعاع المالي الخ…
ولقد عانى بعض المسؤولين اللبنانيين شيئù من الحرج وهم يحاولون أن يشرحوا قانونهم الجديد للانتخابات، الحامل في طياته الكثير من التشوهات، التي توفر مطاعن جدية في النتائج، كائنة ما كانت نسبة السلامة في العملية الانتخابية ذاتها،
ولأن الهجوم هو أفضل سياسة دفاعية، لم يجد هؤلاء مناصù من رد السؤال على محرجيهم: وأين هي انتخاباتكم أيضù؟! وهل ترى كانت مشكلة البحرين قد تفاقمت إلى هذا الحد لو أن البحرانيين يمارسون حقوقهم كمواطنين وينتخبون ممثليهم ليشاركوا العائلة الحاكمة مسؤولية توفير حلول جدية للأزمة الاقتصادية الاجتماعية الخانقة، التي يفاقمها الإحساس العميق بالاضطهاد وبمنع البحراني من ممارسة حقوقه كإنسان قبل »المواطن«؟!
مع الجزائريين كان النقاش صعبù للغاية، فهم يرفضون أي حديث في الماضي، ويصرون على الانطلاق من الانتخابات الرئاسية وكأنها بداية التاريخ،
أما المصريون فكانوا يداورون في الاعتراف بأن الانتخابات عندهم حملت في طياتها العديد من الأخطاء، وبعض الخطايا كمثل استبعاد الأقباط عن لوائح الحزب الحاكم خوفù من أن يسقطهم التعصب »الرسمي« المعتمد في الهجوم المضاد على »تطرف الجماعات الإسلامية التي تقاتل بالسلاح ضد أشكال الديموقراطية كافة«…
أما في الدروس التي ألقاها العقيد معمر القذافي على المؤتمرين، »باعتباري الأقدم من بينكم، (قبل أن ينتبه إلى وجود الملك حسين)، والأعظم خبرة، والأعمق تجربة« فقد كرّر مقولاته الشهيرة من أن »التمثيل تدجيل« و»المجلس النيابي حكم غيابي«…
وكان أطرف ما ختم به أنه مجرد مواطن عربي ليبي لا صفة رسمية له، »فلا أنا ملك ولا أنا رئيس مثلكم، بل كلفتني اللجان الشعبية بإبلاغكم رأيها وها قد بلّغت… اللهم فاشهد«!!
* * *
باختصار، لا ناخب عربيù. المستحضر دائمù »مجهول« هو »الشعب«، بالجملة.
أما حيث يحضر »الناخب«، كما في لبنان، لاستحالة استحضار »الشعب« دفعة واحدة، فيتم اللجوء إلى أشكال من التحايل »القانوني« لتغييبه.
يكفي أن نأخذ عينة من الجدل البيزنطي الدائر (علنù!!) حول الانتخابات في لبنان، قانونù ودوائر ولوائح (ونتائج؟!) لنكتشف مدى جسامة الفارق المفجع في قيمة »الناخب« بيننا وبين العدو الإسرائيلي.
ولأن هذا الجدل غير موضوعي ومفتعل إلى حد كبير، وغير مؤثر في النتيجة، فقد تحول إلى سفسطة أو لغو لا يتناسب مع خطورة اللحظة السياسية التي تعيشها البلاد والمنطقة التي يقض مضجعها الآن الشبح الهتلري لبنيامين نتنياهو.
كان لبّ الجدل حول الديموقراطية، وما زال، طائفيù.
في البداية بذل المعنيون بعض الجهد لتمويهه، لكنه مع اقتراب لحظة الحقيقة صار فحيحاً طائفيù محرقù كمثل القول: »هي مسألة حياة أو موت للدروز«… ومن الجانب الآخر يأتي الجواب: »لماذا يتحكّم المسلمون بالنواب المسيحيين في مختلف المناطق ونحرم من ممارسة مثل هذا الحق في الجبل«؟!
وكان طبيعيù والحالة هذه أن يصب النقاش الماء في طاحونة رجال الدين، من الطوائف كافة، فيتصدّرون واجهة الحديث عن الديموقراطية بوصفهم حماتها!
ومع »ديموقراطية« كهذه سيظل للأعرق في الأخذ بالدين القومية، كالإسرائيلي، شرف الانتصار!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان