في الطائرة التي أقلعت من مطار بيروت مع الغروب مزدحمة بركابها العائدين من إجازة الأعياد الطويلة، لم يكن يرتسم على وجوه الكويتيين ما يشي بالخوف من حرب قريبة ستكون أرضهم ومياههم وسماؤهم منطلقاً أو قاعدة خلفية للهجوم الهائل القدرات الذي ستشنه آلة الحرب الأميركية ضد العراق »لتحريره من حاكمه الطاغية«، على ما لا يتعب من إعلانه كبار المسؤولين في واشنطن وسائر العواصم التي باتت بلا قرار.
كذلك لم يكن في الصحف الكويتية الخمس ما يختلف عما تتداوله وسائل الإعلام الأخرى متصلاً بمشروع الحرب الأميركية التي ستغيّر جغرافية هذا المشرق العربي، وقد تخرجه من التاريخ.
كانت هموم الداخل الكويتي طاغية تحتل الصفحة الأولى إلا قليلاً بتفاصيلها التي لا تنتهي، الغث منها والسمين، بدءاً بالصراع المفتوح بين الحكومة (أو بعضها) ومجلس الأمة (أو بعضه)، مروراً بالتناقضات بين القوى السياسية الجنينية التي تحاول تأكيد وجودها أو تلك القوى العريقة والتي تحاول إعادة صياغة خطابها السياسي منحدرة به من »القومي« إلى »الوطني« ومن »التقدمي« إلى »الليبرالي«، فضلاً عن أصناف »الإسلاميين« الذين يرفعون صوتهم غليظاً، إيذاناً بافتتاح الموسم الانتخابي الذي قد يعطيهم في »مناخ الحرب« فرصة ممتازة لتحسين المواقع ولو بالابتزاز المفتوح.
ولقد تأكد هذا الانطباع بطغيان هموم الداخل على ما عداها، وكأنما بقرار تواطأ الجميع على الالتزام به عبر اللقاءات العديدة التي أتيحت الفرصة لعقدها مع بعض كبار المسؤولين، وفي الطليعة منهم »نائب الملك« الشيخ صباح الأحمد، الذي يكاد يختزل في شخصه الآن الحكم كله، بالاضطرار… بل ان البعض »يتهمه« بأنه يجمع في ديوانه الحكم والمعارضة معاً، أو معظم هذه ومعظم ذاك، مما يتسبّب في مزيد من الضياع للمراقب والمتابع والمعني في الداخل، فكيف بالوافد الآتي على وقع طبول الحرب الأميركية التي تضخّم الخطر العراقي لتحجب التواطؤ الأميركي الإسرائيلي، فتغيب فلسطين بجراحها النازفة خلف صورة الجبروت الكاريكاتورية الأسطورية لصدام حسين.
وهكذا من مكاتب الوزراء، في الإعلام والشؤون الخارجية والدفاع، الى مكاتب الصحف التي تكاد تكون »أحزاباً« في الاقتصاد كما في السياسة، الى »الديوانيات« التي تشكل معرضاً مفتوحاً للآراء و»مراصد« لاستكشاف آفاق الصفقات التجارية الجديدة، كما آفاق التحالفات الانتخابية الجديدة، عبر المجاملات واللياقات التي يحرص هذا المجتمع المفتوح على الأخذ بها، حفظاً لتقاليد الأجداد: يتأكد انطباعك من أن الكويتيين يواصلون حياتهم »خارج الحرب« مع وعيهم أنها قد تكون غداً أو بعد غد!
كل الخارج ضد التقسيم..
آلة الحرب خارج السور، يعرف بوجودها الجميع، لكن أحدا منهم لا يراها إلا في نشرات أخبار الفضائيات، لا سيما فضائية »الضرة« الخليجية في الدوحة، وفي تزايد الحشد الصحافي الغربي، الأميركي أساسا، (فريق ال»سي. ان. ان« المكون من سبعمئة شخص استأجر ثلاث عمارات ضخمة مجاورة لأبراج الكويت حتى تكون الصورة ذاتها دالة على المكان)…
وتفهم من نائب رئيس الحكومة وزير الدفاع الشيخ جابر مبارك الحمد الصباح ما مؤداه:
إنهم موجودون بعلمنا، طبعا، لكن قرارهم بالحرب لا ينتظر إذننا. ثم، ما أهمية أرضنا وحاملات طائراتهم تكاد تسد الخليج وبحر العرب وتنتصب قلاعا جبارة في المحيط الهندي؟! قد تمرق الصواريخ من فوق رؤوسنا، وقد تتحرك جيوشهم من جبهات متعددة، بينها أرضنا… لكننا نفترض، أو نتمنى، أن يكون هذا الحشد اللجب وسيلة للضغط أو تمويهاً لحدث ما، انفجار ما، تطور دراماتيكي ما، خُطط له بدقة ليقع في بغداد في »الساعة صفر«، فيمنع الحرب ودمارها المريع، ويخلّص العراق من طاغيته بأقل الأضرار.
أما من غير الوزراء الذين تمنعهم مواقعهم الرسمية من الكلام الصريح فتفهم أن الكويتيين يصدقون أن مهمة إعادة بناء دولة العراق الحديثة تكاد تكون جاهزة، وان الأميركيين على وشك أن يفرغوا من رسم تفاصيلها وتحضير أجهزتها بل وقوانينها… فثمة 16 »لجنة عراقية« تعمل على مدار الساعة لإنجاز كل ما يتطلبه بناء »العراق الجديد«، على قاعدة من الديموقراطية: »وكلنا نعرف أن ملايين العراقيين مشردون في المنافي، وبينهم كفاءات علمية ومهنية ممتازة تعمل الآن في إعادة صياغة دولة المستقبل«.
تحاول أن تدير نقاشا فيأتيك رد قاطع من الرجل المحنك والمعتقة خبراته بالحكام العرب عموما، إذ إنه »عميدهم« ولو من موقع وزارة الخارجية:
في تقديرنا أن العراق لن يقسم. لا مصلحة لأحد في تقسيم العراق، لا على أساس عرقي ولا على أساس طائفي. تركيا ضد التقسيم، وضد دولة كردية بالذات في شماله الذي يجاورها… والسعودية ضد التقسيم لأنها لا تريد دولة شيعية الى جوارها. وإيران ضد التقسيم لأن التقسيم سيجعلها مطوقة بالقواعد الأميركية من الجهات الأربع. أما سوريا فمن البديهي أن تكون ضد التقسيم لأسباب عملية فضلا عن موقفها المبدئي الثابت والمعلن.
أما وزير الدولة للشؤون الخارجية الشيخ محمد صباح السالم الصباح فلا يتعب من التوكيد أن مجلس التعاون الخليجي قد قرر في قمته الأخيرة بالدوحة (على رغم غياب معظم »الكبار« عنه) التزامه بوحدة التراب العراقي ورفضه للتقسيم لأنه ليس حلا بل هو سيخلق مجموعة من المشكلات والتداعيات الخطيرة المهددة لكيانات المنطقة جميعا.
وباختصار فإنك تذهب إليهم سائلا فيبادرونك هم بالأسئلة ليس فقط عن موعد الحرب، بل كذلك عن قدرة صدام حسين على المقاومة، وقدرة جيشه، وبالذات الحرس الجمهوري، على احتمال الضربات والحفاظ على تماسكه… لكنهم يظهرون اطمئنانا الى »وطنية« الشيعة الذين كانوا »الطليعة المقاتلة« في »مواجهة الخطر الإيراني«، والى »وعي الأكراد« الذي سيقف بمطالبهم عند حدود الحكم الذاتي أو الفدرالية التي تحفظ للعراق وحدته، حتى وهي تعترف لكل فئة بخصوصياتها، »وهذا ما يساعد على تحقيق ديموقراطية نموذجية في الأرض التي شهدت أعتى الدكتاتوريات عبر تاريخها الطويل«..
نحو عقد اجتماعي جديد؟!
الكويت مشغولة بذاتها، ربما بأكثر مما يجوز، لكن »زمانها« يفرض عليها هذا الانشغال.. فالحكم مأزوم بالمرض الذي يتسبب في بعض الشلل، وحديث الخلافة يفتح الباب على جهنم من المنافسات والمناكفات والصراعات بين الأبناء والأحفاد.
ومع التسليم بحق الأسرة الحاكمة، وضمن التراتبية المعتمدة فيها والتي تحصر الامارة في »ذرية مبارك الكبير«، فإن الجيل الثاني الذي ينتظر دوره قد تقدم به العمر حتى لحق به الجيل الثالث، ولا بد من تسوية تاريخية جديدة تنقل السلطة ذات يوم مقبل، لم يعد بعيدا، بهدوء ومن دون إشكالات أو جراح.
والمنافسة تفتح الباب عريضا أمام التحالفات مع الشركاء التاريخيين من أبناء العائلات العريقة الذين كانوا قد اختاروا آل الصباح للامارة على ان تكون لهم الوزارة ومعها التجارة.
وعبر المناقشات المطولة والمتشعبة التي تلمس موضوعات حساسة جدا، تكاد تصل الى الاستنتاج ان الكويت في الطريق نحو »عقد اجتماعي جديد«، يأخذ في اعتباره التحولات التي عاشتها هذه الامارة الصغيرة بعديدها الغنية بثروتها، قبل احتلال صدام حسين ومن ثم »التحرير« الأميركي، وبعدهما، كما يأخذ في الاعتبار أيضا تنامي عدد سكانها بأصولهم القبلية المتعددة وتأثيراتها على الحياة السياسية بدءا بالانتخابات (فبضع مئات من الاصوات قد تعدل النتائج في دوائر كثيرة) وصولا الى دور مجلس الأمة، كضابط للتوازن، ثم الى الحكومة وكيفية توزيع المقاعد فيها بحيث لا تكون عرضة للارتجاج او للتفسخ عند كل مساءلة أو استجواب كما حدث بالأمس القريب، مع وزير المالية، وكما يحدث الآن وعبر الاستجواب الجديد حول »أرض اللآلئ« والموجه الى وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء تفاديا لخطر الارتطام فوق القمة!
ويأتي في هذا السياق الاعتراض الجدي الذي بدأ يعبر عن نفسه علنا على دخول »الجيل الجديد من أبناء الأسرة الى مجال التجارة منافسين أهل الكويت في أرزاقهم بشكل حاد وشرس أحيانا« ليخلص الى التذكير بأساس العقد الاجتماعي القديم: »حكم وتجارة لا يجتمعان«…
لسنا طرفاً، حتى مع المعارضة..
لا تستشعر لدى الكويتيين »شماتة« بالعراق المعرّض، شعبا ومجتمعا ودولة وثروة، لمخاطر غير محددة وغير محدودة.
لعلهم الآن أكثر وعياً بأن غزو الكويت كان فعل سلطة باغية، لا تعبيرا عن إرادة شعبية عراقية… ولعلهم الآن أكثر إدراكا بأن شعب العراق كان ضحية لمغامرات حاكمه الدكتاتور، أكثر مما كانوا هم: »لم يطل احتلاله لبلادنا لأكثر من سبعة شهور، أما اخوتنا المساكين في العراق فهم يدفعون من دمائهم ثمن تسلطه منذ ثلاثين عاما أو يزيد«!.
وهم يُخرجون أنفسهم كطرف في »الحرب الجديدة«، سواء كحكام ام كمواطنين: »انها مشكلة بين النظام العراقي والامم المتحدة، فرضتها الادارة الاميركية على جدول أعمال العالم بأسره، وليس لنا فيها دور خاص. طبعاً نحن مع تنفيذ القرار 1441، لكن هذا لا يعني اننا نريد الحرب، أو اننا نتمنى أو نرغب في تدمير العراق«.
لذا لا يرون للكويت دوراً في الحرب حتى وان استخدم الاميركيون أرضها وسماءها ومياهها مسرحاً لآلتهم العسكرية الجبارة: »هل نملك ان نمنعهم؟! لولا بعض التحفظ المتصل باعتبارات معنوية لقال قائلنا اننا في موقع الرهائن«.
من هنا فالحكم حريص على ألا يظهر في صورة ما يرسم ليكون »عراق المستقبل«: ما يعنينا ان يعود العراق الذي تختطفه الآن عصابة من الطغاة، الى العراقيين، الذين هم وبرغم كل مآسي الماضي بعض أهلنا، وجيراننا، وشركاؤنا في المصير، ماضياً وحاضراً ومستقبلا.
ويصارحك بعض المسؤولين:
أوفدنا مراقباً الى مؤتمر المعارضة العراقية الذي نظمه الاميركيون في العاصمة البريطانية، مجرد مراقب، فأحدث الامر أزمة جدية عندنا في الداخل. لا نريد ان نظهر وكأننا »شركاء« للقوة العظمى التي تقرر للعراق مستقبله. مثل هذا التوصيف تبجح أو ادعاء لا نقدر عليه. نتمنى عودة العراق دولة طبيعية الى جوارنا، لكننا لسنا في مجال التواطؤ على مستقبل العراقيين. لسنا طرفاً في القرار حول مستقبل العراق.
يضيف مسؤول آخر:
حتى اللحظة ما زلنا نتردد في استضافة المعارضة العراقية »كمؤسسة«. نستقبل بعض المعارضين العراقيين الذين لنا بهم صلة أو علاقة قديمة، لكننا لا نقبل ان نكون القاعدة أو المنطلق لأي عمل »تآمري« على هذا النظام الذي عادانا ووجه جيوشه لاجتياح بلادنا، بعدما كان قد اعترف لنا بالفضل العميم في مساعدته في حربه ضد إيران الثورة الاسلامية… وطالما قال صدام حسين لأميرنا: »لقد أوصيت ولديّ، عدي وقصي، ان يتجها إليك اذا ما أصابنا سوء خلال حربنا مع ايران، أو كانا بحاجة الى عون.. وأنا على ثقة بأنك ستعتبرهما من أبنائك«.
الكويت لبنان وأزمة السلطة..
خارج الدائرة العراقية تبدو الكويت مثقلة بهمومها الداخلية.
صحيح ان دورة الحياة فيها طبيعية، وان الاعمال الى ازدهار بدليل ان البورصة حققت من الارباح فوق المتوقع، وان حركة الاستثمار والتوظيف في الداخل والخارج ناشطة ومجزية، لكن الجميع يستشعر طلائع أزمة مقبلة تتصل بقمة السلطة ولكنها ستعكس تبعاتها على مختلف جوانب الحياة.
وفي لحظات كثيرة والحديث عن التفاصيل الداخلية المتشعبة، السلطة وتوازناتها الدقيقة، ومعارضاتها متعددة الاغراض والاهداف، والعلاقة المتوترة للاعلام (الصحافة) بالسلطة، كان لبنان يفرض نفسه ضيفا شرعيا… فوجوه التشابه كثيرة، مع اختلاف حجم المداخيل ووجوه الإنفاق وأسباب العجز.
والصحف في الكويت »أحزاب«، أوليست المصالح هي التي تنشئ الاحزاب، حتى في المجتمع الرأسمالي؟ وعن الكويت اللبنانية سيكون حديثنا التالي..
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
انطباعات من زيارة سريعة مسرح خلفي حشد اميركي كويتيون خارج قرار حرب ومطمئنون الى استحالة تقسيم عراق
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان