هل شاخت الثورة الإسلامية في إيران؟ هل فقدت عبر »السلطة« زخمها الذي شكّل ذات يوم وعداً بتغيير جذري ليس فقط على مستوى الإقليم، بل على مستوى العالم الإسلامي بل والعالم الثالث برمته… وهو وعد يمتد من الأفكار إلى القيم، إلى وسائل الإنتاج، إلى النجاح في إثبات الأهلية عبر تقديم »نظام جديد« يقدس كرامة الإنسان وحقوقه؟!
هل استهلكت مؤسسة »السلطة« حيوية أهل »الثورة«، وعادت موازين القوى إلى قاعدتها الأصلية، فإذا »الحرس الثوري« أقوى من حملة الأفكار والطموحات المشروعة إلى غد أفضل، وإذا »الأجهزة الأمنية« تقدم الاستقرار على الدعوة والتجدد ومواجهة التحديات في عينيها بدلاً من تجميد كل شيء بذريعة التفرغ لمقارعة »الشيطان الأكبر« بمناوراته السياسية المتوالية وحصاره الضاغط والذي أثر سلباً على حركة إيران الدولية، وألزمها بموقع دفاعي هو بطبيعته ضعيف، ومنع التطور الطبيعي والمثمر مع محيطها، وجعلها ركيزة في »محور الشر« وطاردها بتهمة »حماية الإرهاب« وتشجيعه على المستوى الكوني؟!
هل تعبت »العمامة« من أفكار التجديد التي أهّلتها لأن تُسقط »الشاه« وإمبراطورية الفساد والتبعية، فصار الاختلاف في الاجتهاد سبباً لاتهام المجاهدين في إسلامهم وفي وطنيتهم، ومطاردتهم باللعنة، والاعتقالات والسجون، ومنعهم من ممارسة حقوقهم الطبيعية كرفاق سلاح وكأبناء شرعيين لثورة الإمام الخميني، من حقهم أن يطالبوها وأن ينتظروا منها الكرامة مع الخبز، والديموقراطية مع التقدم، واستكمال النموذج الجديد المختلف جذرياً عن النموذجين اللذين كانا سائدين عند تفجرها كوعد بعالم جديد، قبل ربع قرن؟!
هل عادت »المؤسسة الدينية« إلى التقليد، مستغنية بنظامها الفريد في بابه، عن مغامرات السعي إلى تغيير الكون بالعقيدة والإيمان مع فهم لروح العصر واستخدام بارع لمبتكراته العلمية ووسائل الترويج العصرية (الإعلام)، مكتفية بأن تحمي ذاتها ونظامها داخل سور لا يستطيع الصمود أمام اجتياح »الخارج«، الذي غدا الآن »أميركياً« بالكامل، والذي يملك قدرة هائلة على التأثير بالنموذج الناجح اقتصادياً وسياسياً والمتفوق عسكرياً، وبالشعار المدغدغ للفردية، وثورة الاتصالات والمواصلات الخارقة للحدود والسدود، والحريات عموماً بما فيها حرية القول والنشر والعمل، وحق الاختلاف؟!
هل ارتد النظام الإيراني إلى موقع دفاعي، بعد جملة من الحروب التي استنزفت طاقاته على جبهات متعددة، وشغلته عن المهمة التي انتدب نفسه لإنجازها في البدايات وهي »تصدير الثورة« فانصرف إلى حماية ذاته، داخل إيران، بأي ثمن؟!
.. ومن أجل حماية الذات دخل النظام في الخارج، في سلسلة من المساومات التي كان لا بد أن تترافق مع شيء من التفريط بالشعار الثوري… وإذا كانت أفغانستان الاحتلال الأميركي هي المثل الفاقع، فإن عراق ما بعد الاحتلال الأميركي يكاد يندرج في هذا السياق.
المفارقة أن هذا الدهاء الذي سهّل إنجاز المهمة مع الخارج، ومع الأميركي تحديداً، قابله تضييق شديد في الداخل وعلى الداخل، ممّا تسبّب بانقسام حاد بين »قوى الثورة« فجعل »حرسها« في مواجهة أفكار التغيير، وجعل مرجعيتها السياسية تنشق على ذاتها عبر ممارسة »السياستين« المتناقضتين.
وما من شك في أن النظام الثوري في إيران قد تجاوز بكفاءته، وارتكازه على الإيمان، العديد من التجارب الثورية في العالم الثالث… ولكن التحولات الهائلة التي شهدها العالم وأدت إلى تفرد قطب أوحد بالقرار الدولي، بعد عشر سنوات فقط على »آخر ثورة شعبية حقيقية« في القرن العشرين، قد ضيّقت أمامه هامش المناورة، وسرّعت في تفجّر التناقضات بين قدسية العقيدة ومتطلبات الحياة اليومية في بلد كان الطموح الأعظم لشعبه (وما زال) يتمثل في الديموقراطية وفي الانتماء إلى نادي الدول المتقدمة.
ها هي إيران الثورة تنشق على ذاتها بين »محافظين« يخافون من فتح النوافذ حتى لا تجتاحهم رياح السموم الأميركية، وبين »إصلاحيين« يفترضون أن الثورة بعد ربع قرن قادرة على المواجهة، وبالديموقراطية في الداخل، وبالأخذ بأسباب التقدم ضمن المنطق الثوري الإسلامي، بدلاً من الجمود الذي يؤدي إلى الانهيار أمام الضغوط الخارجية، والذي لا بد سيتسبّب بتمزيق صفوف رفاق السلاح والحلم الواحد.
ها هو النظام الثوري يتصرف بضيق شديد، فيبادر إلى توقيع الحرم على أبنائه، فيتحكّم »مجلس مراقبة الدستور« بتسمية المرشحين للانتخابات النيابية التي ستجري بعد أربعة أسابيع، و»يُسقط« من اللوائح سلفاً أسماء نواب فازوا بأكثرية ساحقة من الأصوات، موجهاً إليهم ولو ضمناً اتهامات بالخيانة، مهدداً الحكومة بالانهيار، فارضاً على الرئيس محمد خاتمي (المنتهية ولايته قريباً) نهاية بائسة لمرحلة كانت واعدة، لكن الوعد أجهض بكثير من التعسف.
والمعركة لما تنتهِ… فقائد الثورة فضّل الحياد، الآن، مرجئاً تدخله إلى اللحظة الأخيرة، وحين يتبيّن أن لا مفر من أن تصدر عنه مباشرة الكلمة الفصل التي لا بد أن يلتزم بها كل هؤلاء الخارجين من التسليم بولاية الفقيه.
ومن شأن تلك الكلمة أن تحدد الخسائر، لكنها لن تحمي إيران من تكبّدها، مما يضعف هذه الدولة العريقة في مواجهة تحديات الخارج الأميركي.
ولعل هذا ما يدفع إلى التساؤل: هل يعي »المحافظون« خطورة الدور الذي يلعبونه، ومدى الأذى الذي يلحق »بدار الإسلام« موفراً الذخيرة للإدارة الأميركية في حربها الظالمة على الثورة الإسلامية، بكل رموزها وإنجازاتها…
* * *
قبل أيام، جال وفد من المجلس الأعلى للصحافة في إيران على عدد من المؤسسات والمنتديات الثقافية والإعلامية، وكانت »السفير« وزميلات أخرى بين محطات النقاش حول الصراع المحتدم سياسياً بين المحافظين والإصلاحيين في قلب السلطة في طهران.
وكان لا بد أن نستذكر عمليات الاعتقال والأحكام بالسجن التي تعرّض لها العديد من الزملاء الصحافيين في طهران، وإلى القرارات المتتالية بتعطيل أو حتى بإغلاق صحف »الإصلاحيين« والقائلين بالديموقراطية من داخل الخط الثوري ومن داخل الإيمان برسالة الإسلام وولاية الفقيه.
كان بديهياً، بالتالي، أن نستذكر مفكراً وكاتباً وزميلاً وصديقاً في طهران هو ما شاء الله شمس الواعظين، الذي نعرفه جميعاً باسم »شمس« والذي أغلقت كل مطبوعة عمل بها أو أصدرها، ثم سُجن سنوات قبل أن يُطلق سراحه، مع تحديد لحريته في السفر إلى الخارج.
وكان بين الوفود عدد من النواب وبعض زملاء »شمس« وأصدقاء له.
ولقد ضجت قاعة اللقاء بالضحك حين حبكت النكتة مع أحد ظرفاء النواب حين قال: كان لا بد من أن يُسجن »شمس« كي أفوز أنا بالنيابة! هذا مقابل ذاك!
ومع أنها كانت »نكتة« فقد كانت، أيضاً، تلخيصاً درامياً للحظة السياسية في طهران.