تحاول إسرائيل، بنجاح ملحوظ حتى هذه اللحظة، وتحت الشعار الجذاب لانسحابها من لبنان، أن تحقق سلماً ما عجزت عن تحقيقه حرباً.
وكما في اجتياح 1978 الذي كان قراراً إسرائيلياً منفرداً بالحرب، ولكن من ضمن قراءة دقيقة للتحولات الدولية والتطورات العربية، وأبرزها خروج مصر السادات من ساحة الصراع العربي الإسرائيلي، بكل تداعيات ذلك الخروج المأساوي،
.. كذلك فإن قرار إسرائيل بالانسحاب، الآن، وبرغم أنها اتخذته منفردة إلا أنها مهّدت وتمهّد له الأرض، دوليا وعربيا، بحيث يبدو وكأنه استجابة لارادة »الشرعية الدولية« ولتمني العديد من الأطراف العربية، وتلبية لاحتياجات المصالح الأميركية الراعية للدور الإسرائيلي في المنطقة.
لقد عرفت إسرائيل كيف تسوِّق مطلبها »الشعبي« بالانسحاب من »الجحيم اللبناني« بحيث تبدو الآن »صاحبة فضل«، وقد أقدمت على »تضحية نادرة« وعرَّضت أمنها للخطر من أجل ألا تخذل الحليف الأميركي، أو تخسر الصديق الفرنسي (خاصة) والأوروبي عامة، أو تخيّب أمل »شريك المستقبل« العربي، سواء أكان مصريا أم أردنيا أم فلسطينيا… وصولا إلى موريتانيا واليمن السعيد!
نسي العالم أو تناسى، بمن في ذلك الطرف المعني، أي الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، ان إسرائيل ظلت ترفض تنفيذ القرار 425 على امتداد 22 سنة طويلة، تبدل فيها الكون، سياسيا واقتصاديا وعقائديا وعلميا.
اختفت مشاهد المأساة اللبنانية بكل ما حفلت به من فواجع وهي في أي حال ما زالت مفتوحة على القتل والتدمير وقصف المدارس والكهرباء والجسور وإحراق البيوت والأشجار والمواسم الزراعية وكتب الأطفال.
خلا المسرح أو أخلي لإيهود باراك، الرجل الساعي إلى »السلام«، والذي يريد أن »يحرر« لبنان من ثقل احتلاله »فيرفض« اللبنانيون هديته السخية ويطالبونه مباشرة أو ضمنا بالبقاء، وإلا اتهموه بالتآمر على وحدتهم أو سيادتهم أو علاقتهم الأخوية الراسخة مع سوريا، والقائمة على شعار تلازم المسارين!!
لم يعد لعواصم القرار في العالم من حديث إلا شجاعة باراك الذي يتحدى جنرالات جيشه وقوى المعارضة داخل حكومته الائتلافية وخارجها، من أجل إثبات صدق التزامه تعهده بالانسحاب من لبنان في موعد أقصاه تموز المقبل، موعد تنصيبه على عرش ملوك إسرائيل!
أسقطت تلك العواصم ملهاة المفاوضات المفتوحة على العبث، الدائرة بين الفلسطينيين والحكومة الإسرائيلية، وأخذت تنظر إليها كشأن محلي إسرائيلي، هو بين البلدي والبيئي، فإن كانت له جوانب إنسانية تولتها منظمات كنجمة داود الحمراء أو صندوق المساعدات التابع للدول المانحة.
وطوت تلك العواصم الملف المتفجر للمفاوضات المعلقة على فوهة مدفع بين سوريا وحكومة باراك، والتي تولى الأميركيون طي صفحتها وإرجاءها الى موعد آخر لا يزعج الائتلاف الحكومي الهش حيث يعارض 19 وزيرا من أصل 24 رئيسهم كما تعارضه المؤسسة العسكرية، إضافة إلى المستوطنين، في الانسحاب من هضبة الجولان السورية المحتلة.
صارت تلك الكيلومترات من الجنوب اللبناني وكأنها آخر مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، الانسحاب منها هو السلام الشامل والعادل، والبقاء فيها هو إشعال لفتيل برميل البارود في هذه المنطقة الحساسة جدا والقابلة للاشتعال، ليس فقط لغناها بالنفط وإنما قبل ذلك لتعلقها بأسطورة التاريخ!
تجند العالم كله، فجأة، لتنفيذ القرار 425، وبين مسؤوليه الكبار مَن كان يرفض الاستماع إلى اللبناني المهيض الجناح وهو يعرض ظلامته، فإذا استمع إليه نصحه بالصبر والانتظار، ريثما يتم فض النزاع الأصلي مع الأطراف الأساسيين كسوريا والفلسطينيين، فيجيء الانسحاب الإسرائيلي من لبنان كنتيجة حتمية أو كخاتمة سعيدة للمأساة التاريخية التي تعيشها هذه الأرض منذ بداية القرن العشرين وإن كانت بلغت ذروتها الدموية مع إقامة إسرائيل (بقرار دولي) في العام 1948.
الكل سبق باراك إلى التنفيذ: الادارة الأميركية، فرنسا ومجمل أوروبا وبعض العرب، وحتى الأمم المتحدة، المؤسسة الهرمة التي لم تُعرف عنها المبادرات وخفة الحركة والتقدم على المتضرر وعلى الشاكي معاً، والتي سبق أمينها العام الجميع إلى التصرف وكأن الانسحاب الإسرائيلي قد تمّ فعلاً، برغم أنه لم يتلق حتى الآن مذكرة رسمية إسرائيلية تحدد فيها كيفية استجابتها أو استعدادها لتنفيذ قرار رفضت مجرد البحث فيه على امتداد 22 سنة طويلة ومثقلة برائحة الدم والموت والخراب.
لعل هذه الحماسة المبالغ فيها إلى حد الاسترابة في بواعثها وبما يدفع الى التشكيك في استهدافاتها، هي التي دفعت اللبنانيين إلى التخوف من نتائج هذا الانسحاب الذي يرونه برغم كل شيء نصرا مؤزرا لارادة الصمود ولروح المقاومة وقدرات مجاهديها البواسل والتضحيات الهائلة التي تحملها النساء والرجال والأطفال والشيوخ بصبر نادر المثال.
لم يعهدوا بعواصم القرار أن تُظهر مثل هذا الفرح لانتصار شعب صغير، اشتهر بضعفه العسكري وحبه للحياة وشطارته في ميدان الأعمال، على قوة عاتية ومحصنة، بل هي »معصومة« دوليا مثل إسرائيل!
ولم يعرفوا طوال سنوات الجرح والفزع والعذاب، الحد الأدنى من التعاطف الدولي، بل كان يقال لهم: أنتم تدفعون ضريبة صراع الأقوياء في منطقتكم والمتصارعين الأقوياء عليها، فصبراً حتى يمكن ضبط الصراع والسيطرة عليه ودفعه نحو الحل، إذّاك يحين دوركم فتجنون ثمار السلام الشهية!
لهذا، ومهما بلغ اللبنانيون من السذاجة، فلسوف يستقر في أذهانهم ان الانسحاب الإسرائيلي الذي سيسعدون بتنفيذه، وجه آخر غير تمكينهم من بسط سيادتهم على أرضهم، أخيرا، وغير توفير الطمأنينة والرفاه لهم… فذلك كله أجمل من أن يكون حقيقة، وهم لم يعهدوا مثل هذه الرعاية والاهتمام مجانا ولوجه الله الكريم (الذي لا تعرفه السياسة لا في إسرائيل ولا في عواصم القرار)..
مع ذلك سيظل الانسحاب الإسرائيلي نصرا لبنانيا وعربيا،
وسيظل لبنان متمسكا بالشرعية الدولية وقراراتها، ولا سيما القرار 425. لن يخرج منه ولا عليه إلى عراء الإهمال الدولي بذريعة أن إسرائيل قد قبلته.
لا إسرائيل باشرت اعتداءاتها في آذار 1978، ولا هي أوقفتها بعد الاعلان عن قرار حكومتها بالانسحاب.
قبل ذلك بعشر سنوات، وعشية نهاية العام 1968، أغار الطيران الحربي الإسرائيلي على مطار بيروت فدمر الأسطول التجاري اللبناني.
وفي مثل هذا اليوم من العام 1973، تسلل رجال الكوماندوس الإسرائيلي إلى بعض أنحاء بيروت، ليغتالوا ثلاثة من أبرز قيادات العمل الوطني الفلسطيني (أبو يوسف النجار وكمال عدوان والشاعر كمال ناصر)، وكان قائد المجموعة الذي تخفى متنكرا في زي غانية شقراء هو إيهود باراك، رئيس حكومة القرار بالانسحاب اليوم.
وفي مثل هذه الأيام من العام 1975 كانت بصمات إسرائيل تتبدى واضحة على سياق تلك الحوادث التي انطلقت شرارتها في 13 نيسان ثم امتدت نيرانها لتحرق أكثر من 15 سنة من عمر اللبنانيين (والفلسطينيين وسائر العرب)..
ووسط ذلك الحريق الهائل الذي دمر العديد من أنحاء لبنان جاء الاجتياح الإسرائيلي الأوسع، في العام 1982، ليفرض بقوة الدمار والقتل رئيسا للجمهورية ثم ثانيا (بعد اغتيال الأول)، ومعه اتفاق الاذعان الشهير في 17 أيار 1983.
ويمكن المضي في تعداد محطات الإحراق الإسرائيلي المتعمّد للبنان، دولة وشعبا إلى ما لا نهاية (حرب الجبل، حرب شرقي صيدا) خصوصا وقد تفرعت عنه مجموعة من الحروب المحلية التي ما زالت تلقي ظلالها السوداء على حياة اللبنانيين حتى اليوم.
لهذا كله يؤمن لبنان بأن الانسحاب الإسرائيلي انتصار تاريخي له، شعبا ودولة ومقاومة باسلة، ولكل من سانده في نضاله لتحرير أرضه وفي الطليعة سوريا التي قدمت له دعما مفتوحا، وإيران الثورة الإسلامية، وبعض الهيئات العربية (غير الرسمية!!)..
ولهذا كله لن يفرّط لبنان بهذا الانتصار التاريخي، مهما بلغت المناورة الإسرائيلية لتحويل هزيمتها الميدانية إلى إنجاز سياسي من الدهاء والاتقان، مستفيدة من الدعم الدولي المفتوح لنابوليون الصغير.
لكن لبنان سيواجه تبعات الانسحاب وكأنها حرب إسرائيلية جديدة تريد أن تفقده بالسياسة ما جناه بدمه على أرضه.
وعلى هذا فلا بد من كثير من الحكمة، وكثير من العقل، وكثير من التبصر ومن حسن القراءة للخريطة الدولية، ثم تكون بعدها الشجاعة في مواجهة حرب الانسحاب الإسرائيلي.
ولعل معركة الانسحاب تتطلب أكفأ أساليبنا في المقاومة، وأدق خططنا للمواجهة، وأشجع رجالنا في الحسابات الدقيقة حتى لا يضيع الرصاص هباء.
فلنستعد لهذه الحرب بخيرة عقولنا، بخيرة رجالنا، والأهم بوحدة مجتمعنا، وبوعيه لطبيعتها المعقدة: فهي حرب بالحجة والوثيقة والكلمة، وبالشرعية الدولية إضافة إلى الحق الثابت وإيماننا الذي لا يتزعزع به.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان