بينما الشعب في الشارع، وقد نزل مثقلاً بهموم معاشه، قبل الازمة السياسية وبعدها، فان اهل القصر، بل القصور، ما زالوا منهمكين بتركيب الطرابيش في محاولة بائسة لتشكيل حكومة جديدة، بعد نحو ثلاثة شهور من استقالة حكومة الحريري.
انسحب سعد الحريري من ميدان السباق، بعد أن خذلته “قوات” جعجع، واستعصى عليه “التخلص” من جبران باسيل الذي رد بان باشر “تحريض” حميه الرئيس ميشال عون على اختيار بديل من الحريري.. وتوالت الاسماء عشوائيا حتى استقرت على الأستاذ الجامعي الدكتور حسان دياب.. فاذا “جمهور الحريري” ينزل غاضبا إلى الشارع رفضا لهذا المرشح!
لا شيء تغير، اذن.. ويستطيع اللبنانيون أن يتركوا الساحات والميادين مطمئنين إلى أن الامور بخير، بل بألف خير!
كل ما في الامر أن الازمة الاقتصادية تضغط على اعناق اللبنانيين واسباب حياتهم… فدولاراتك (اذا كنت غنيا بها) ليست لك.. والليرة التي استعادت شيئاً من اعتبارها بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار، ومن ثم بسبب اختفائه من المصارف وتقنين هذه المصارف حاجتك اليه لكي تنفق على بيتك وتلبي احتياجاتك العادية، لا تكفي..
لا شيء تغير، لكن عليك أن تغير اسلوب حياتك، وتعود إلى سلوك اجدادك فتعتمد على ما تختزن من “المونة”: برغل وكشك وعدس وحمص وفول ولبنة جرة..
يستحسن ايضا أن تنسى رصيدك في المصرف، فقد بات ملك المصرف لا يعطيك منه الا مثل ما كنت تعطي لابنك او ابنتك كمصروف..
لا شيء تغير.. فلقد اعتاد هذا الشعب أن يسكن الشارع، شهراً وشهرين وثلاثة، والحبل عالجرار!
لا شيء تغير.. ولكن اولادك في البيت لانهم مضربون.. ينتظرون العصر حتى ينزلوا إلى الساحات ليطالبوا بالتغيير في محاولة لحماية حقهم في مستقبل افضل. بل ربما بأي مستقبل!
لا شيء تغير.. الا أنك تقترب من نهاية سنة وبدء سنة جديدة تنبثق من قلب الظلمة والعوز وغموض ما ينتظرك غداً، وما سيكون عليه مستقبل اولادك حيث مستقبل البلاد ودولتها يلفه الغموض..
والموفد الاميركي الذي وصل بيروت بالأمس، والذي يعتبر من الخبراء في “المسألة اللبنانية”، استبق قدومه بتصريحات تنضح بالعدائية لـ”حزب الله”، وتطالب بإخراجه من السلطة.. تجنباً لعقوبات محتملة على لبنان.
لا شيء تغير.. ولكن جماهير الانتفاضة التي شكلت اروع صورة عن هذا “الكيان” الذي صيره شعبه وطناً، مهددة بالانقسام الآن على قاعدة طائفية بذريعة اعلان الولاء للرئيس المستقيل سعد الحريري وتكريسه كزعيم للسنة في مواجهة مشروع الحكومة الجديدة التي سوف يتحكم بمسيرتها “الثنائي الشيعي”.
في حين أن “القوات اللبنانية” عادت إلى موقع “الميليشيا” اعتراضاً على “خيانة” الحريري لها، بعدما كان التفاهم قائماً على صورة الحكومة التي سوف يشكلها.. ثم خذلها باعتذاره!
لا شيء تغير.. فالنظام الذي يستعصي على التغيير، يحاول الآن استعادة “قوته” من الطبيعة الطوائفية لهذا النظام، ومحاولة تصوير ترشيح حسان دياب وكأنه “انتصار للشيعة على السنة”.
انه أخطر تهديد على الانتفاضة التي صمدت لسبعين يوم في ميادين المدن والقصبات والقرى، مؤكدة ولادة شعب بدلاً من الطوائف ووطن بدلاً من الكيان الذي ابتدعه الاستعمار ليكون “بروفة” اولية للكيان الاسرائيلي الذي أقيم بالقوة الاستعمارية على ارض فلسطين العربية، بمسلميها ومسيحيها، وبيت لحم حيث مذود السيد المسيح ومسجد عمر بن الخطاب الذي رفض الصلاة في كنيسة القيامة فصلى بعيدا عنها قبل بناء المسجد الاقصى، حتى لا يأخذ المسلمون ارض الكنيسة او يهدمونها لكي يبنوا مسجدهم، بذريعة “هنا صلى عمر”.
ليست هذه الكلمات الحزينة نعياً للانتفاضة بتأكيد وحدة هذا الشعب ووطنيته..
فالحكومات تأتي وتذهب.. ولكن الوطن لا يمكن تغييره او شطبه بزيارة الموفد الاميركي، او بتأخر تشكيل الحكومة، او بحرد هذا السياسي او ذاك.
الوطن لكلنا.. وكلنا للوطن،
وليذهب النافخون في الفتنة إلى الجحيم، ومعهم المروجون لها والمستفيدون منها.