أخيرا أضيفت إلى المجتمعات الإسلامية حكومة دينية أخرى. ذلك ما لا يبعث على السرور أو التفاؤل. الحكومات نوعان: نوع يمثل الناس، أو بالأحرى يدعي ذلك. نوع آخر يمثل ما هو فوق الناس ويؤكد على ذلك. هذا النوع يمثل الله أو القضية أو الاستبداد. وهذه حكومة يبلغ فيها النفاق الحد الأقصى. لا إدعاء أن النفاق غائب في الحكومات الليبرالية المسماة ديمقراطية والتي تمثّل الناس أو تدعي ذلك، لكن الليبرالية تخفف من النفاق. في الحكومات الدينية يميل المجتمع إلى الانغلاق ويزداد الأمر نفاقاً لدى الناس وحكومتهم. ولاية الناس على أنفسهم، أو ما سماه الإمام محمد مهدي شمس الدين “ولاية الأمة على نفسها” هي الطريق الوحيد. وهي مهما كان مقصده تخرج السياسة من عباءة الدين، وتحرر الدين والسياسة معاً. الدين تحت عباءة السياسة ليس حراً. هو خضوع لمصالح دنيوية يمثلها “العلماء ورثة الأنبياء” أو “ولاية الفقيه”، والسياسة تحت عباءة الدين تفقد معناها، إذا تؤدي إلى انسداد الأفق والنفاق وإخضاع الناس لما لا يختارونه.
يبدأ النفاق في الدولة الدينية بإنشاء دولة موازية تراقب الدولة المدنية وتعلو عليها. هذه غالباً ما تكون مرشداً أعلى، أو حرساً ثورياً أو حرساً جمهورياً، أو طلائع لها تنظيمها الخاص، أو جهاز مخابرات، أو حزباً يحمل لواء القضية تراقبه أجهزة المخابرات وتحميه. الأنظمة الاستبدادية تحوّل، أو تكاد تحوّل، الزعيم إلى إله، والحزب، ولو كان يسارياً، إلى ديني. وفي كل المجالات يكون الشعب وإرادته هو المراد إخضاعه والدوس عليه، وطمس متطلباته، وجعل الدولة لا تستجيب إلا لمتطلبات القضية العليا، أو الزعيم الأبدي، أو السماء ولمن يمثلها ويتولى أمرها على الأرض.
لا مصالحة بين الأرض والسماء إلا عندما تخضع السماء للأرض ويعتبر الناس أنهم هم الذين يصنعون قوانينهم وشرائعهم ويقررون سلوكهم وإرادتهم. الحرب الأهلية هي عندما تخضع الأرض للسماء، ويعتبر فريق من الناس أنهم يمثلونها وينطقون باسم قوانينها وشرائعها. وفي الحقيقة أن ما ينطقه أصحاب الدين عن السماء هو من صنع أهل الدين، ويدعون أنه منزّل من السماء. النفاق أنهم لا يجرأوا على النطق باسم أنفسهم. ويستنجدون باسمها كي يدعون النيابة والوكالة عنها. وفي النهاية استخدام كل ذلك لإخضاع الناس ومعاقبتهم على ما يفكرون به وليس على ما يفعلون! هم يحاكمون النيات أيضاً.
عندما غزا الأميركيون أفغانستان كان أهم شعاراتهم “بناء الدولة”. كان الروس قد سبقوهم بعشرين سنة بغزو أفغانستان وتدمير الدولة. صحيح أنها كانت دولة ملكية، لكنها كان يمكن أن تتطوّر تطوراً جمهورياً بحكم رغبتها أو اضطرارها إلى استخدام السياسة والتسويات بين الاتنيات المتنازعة والمصالح الطبقية المتناقضة. كانت ملكية يمارس في اطارها الناس إرادتهم وتطورهم. وكان يمكن أن تتطور باتجاه الجمهورية الملكية كما هي معظم الدول الأوروبية (كذلك في كمبوديا التي أزيح أميرها سيهانوك المحبوب قبل ذلك لدواعي الحرب الفيتنامية المجاورة). غطرسة الرجل الأبيض لم ترض أن يحدث ذلك في مجتمعات إسلامية أو بوذية. هؤلاء “الشرقيون” يجب أن يخضعوا لما سماه كارل ويتفوغل “الاستبداد الأسيوي” في كتاب طويل صدر في عشرينات القرن العشرين، بخلفيات ماركسية. أكمل الأميركيون ما فعله الروس. هؤلاء دمروا الدولة وسلموها للدين السياسي، وربما للحرب الأهلية. والتسليم كان عن سابق تصور وتصميم. جاء بعد مفاوضات بين حكومة الولايات المتحدة وطالبان. لم تكن “حكومة” أفغانستان الرسمية جزءاً من هذه المفاوضات. كان الأميركيون يعرفون خلال المفاوضات أن وجودهم الامبريالي في أفغانستان لا يؤدي إلا إلى حكومة مسخ، لا تمثل شعبها ولا تستطيع إلا أن تخضع لمتطلبات القوة الامبريالية المسيطرة. هرب رئيسها (رئيس الأفغان) قبل أن يصل الطالبان إلى كابول. يحاول الكثير من الأفغانيين فعل الأمر نفسه. ليس جميعهم من الذين تعاملوا مع الغزاة. ربما كان معظمهم من الذين لا يطيقون العيش تحت حكم حكومة دينية. في المقابل لا تستطيع حكومة طالبان إلا أن تحكم بما تمليه الشريعة أو ما يعتقدون أن الشريعة تمليه. سيحكمون بقوانين صنعوها هم، وينسبونها إلى السماء كما يقتضي النفاق في كل حكم ديني. في كل مراحل التاريخ، كانت الألهة مخلوقات على صورة الإنسان. حسب مراحل التطوّر البشري. لو كان كذلك لكان كائناً لطيفاً حنوناً بعيداً عن النفاق. وما كان البشر على صورة الألهة، إذ مع التوحيد صار للبشر، والكون أجمعين، خالق واحد، لكن كثرة التفسيرات والخلافات، بل والاختلافات والمذاهب في كل دين، حوْل صورة الله وكيف يبدو في مخيلة البشر، تشير الي أن الله أيضاً يخضع التصوّر عنه للمشيئة البشرية. ليس أن للبشر والكون إله واحد، بل أن تعددية التصورات تشير إلى عودة لتعدد الألهة، وإلا كان البشر موحدين في تصوراتهم.
ما يدعو إلى السخرية هو أن الغرب، بما فيه الروس، بدأوا منذ اليوم الأول لوصول الطالبان إلى كابول، يطالبون حكومتها بتطبيق شرائع حقوق الإنسان بما فيه حقوق المرأة والأطفال. يطالبون جماعة دينية، لا تعرف على الأرجح إلا كتبها الدينية بتطبيق نموذج غربي، هي غريبة عنه حتى في طريقة اللباس. وكيف يعرفون غير النموذج المألوف لديهم، وهم قضوا سنوات عديدة في المقاومة ضد احتلال أجنبي يمقتونه في حاضرهم وفي ماضيهم. يريد الغرب من طالبان أن يكونوا ضد أنفسهم أو فلنقل غير أنفسهم. وهذه استحالة منطقية، لكنها تفيد الغرب الامبريالي في حجاجهم لابتزاز الشعب الأفغاني والعالم، وتمويه فعلتهم في هذا البلد وما يشابهها في بلدان أخرى. هم كانوا يعرفون أن الشعب الأفغاني متنوّع متعدد في اثنياته وقومياته ومذاهبه الدينية. أثناء وجود الأميركيين في أفغانستان استخدموا آلاف الاختصاصيين في الأنثروبولوجيا علهم يفهمون الشعب الأفغاني. لكنهم ما فهموا الشيء الواحد المطلوب منهم وهو أن الشعب الأفغاني رغم انقساماته مجمع على رفض الاحتلال. وعد الغرب ببناء الدولة أو دولة-أمة لكنهم سلموها أشلاء. في الأيام الأولى بعد التسلم والتسليم بدأت تظهر بوادر المقاومة ضد طالبان والأرجح ضد الحكم الديني. إن الحرب التي شنها الرجل الأبيض (الروس ثم الأميركيون) ضد أفغانستان، والتي تحولت إلى حروب أهلية، هي على الأرجح ما حوّل المجتمع الأفغاني من حالة تطوّر طبيعي يكون الدين طرفاً فيه إلى حالة تشنّج يكون الدين محورها. أعادوهم إلى حال حروب التحرر الوطني التي تتطلّب أقصى أنواع التعبئة الثقافية والدينية الشاملة، إلى جانب غيرها. دمروا وجودهم الثقافي والمادي، فهل من المستغرب التوجه إلى السماء ولديهم دين يعتبرونه أعظم الأديان وأكثرها تطوراً في جوانب سياسية واجتماعية تعتبرها الأديان الأخرى حتى الخلاصية منها (المسيحية مثلاً) خارج اطار الدنيا والحياة اليومية. أضف إلى ذلك أن عقوداً من الفوضى دمرت النظام التعليمي والتربوي، فلا يبقى إلا التلقين الديني الإسلامي. هل متوقع من الشعب الأفغاني تطوراً طبيعياً بعد اعتداءات وحروب عدوانية دامت نصف قرن؟ عند الأميركيين في بلادهم مراكز معالجة التروما لمن خاض الحرب ولو لسنة واحدة. هل لديهم مراكز لمعالجة التروما لشعب خاض الحرب كل حياته. وأي تديّن يُنتظر من جيل لم يشهد إلا الحرب واحتقار ثقافة الغرب له؟ جيل جديد تعلّم (هذا إذا أتيح له التعليم) على أيدي أساتذة وفي مدارس لم تشهد من العالم شيئاً ولم تعرف من العلم شيئاً سوى مجتمع مغلق وثقافة تراثية لا تغني ولا تصلهم بالعالم المعاصر. ربما أمكن تعميم ذلك على المجتمعات الإسلامية كلها، أو على المجال الحضاري الإسلامي بكامله. الحصار الذي يفرضه الغرب الرأسمالي على العالم، ومعاملة الرأسمال المالي للشعوب، خاصة الإسلامية، بصلف واستعلاء وفجاجة، لا يؤديان سوى إلى انتشار الأصولية في المجال الإسلامي. استشرت الأصولية وانتقلت من الهامشية إلى صلب هذه المجتمعات بعد عام 1979، عام كامب دايفيد والثورة الإسلامية في ايران، واحتلال أفغانستان، وصعود النيوليبرالية. عام فقدان الإنسان وإنسانيته كل أهمية حيال الرأسمال المالي والقيم التى أحدثها. وهي أن لا قيمة إلا ما ينتج عن امتلاك المال. لا يستطيع الغرب تفسير سكوته عن السلاح النووي لدى إسرائيل وفي الوقت عينه يقيم الدنيا ويقعدها بسبب شبهة صنع السلاح النووي في إيران. ليس النظام الإيراني ما يستحق المدح والتقدير، ولكن هل تستحق ذلك إسرائيل التي اغتصبت فلسطين وتشن حرب إبادة ضد شعبها؟ إسرائيل التي لم يرضها أوسلو؟ بأي حق ينصّب الغرب نفسه مرجعاً أخلاقياً لكل البشرية وهو الذي مارس رأسمالية امبريالية على مدى خمسة قرون؟ وأدخل العنف بشكل غير مسبوق إلى أراضٍ وشعوب كان العنف فيها هامشياً فحولته محورياً في حياتها. لماذا يصدّر الغرب إلى الشعوب المستضعفة أسوأ ما في ثقافته وسياسته؟ يمارس المعرفة ويصدّر الجهل؛ يمارس الديمقراطية ويصدّر الديكتاتورية؛ يمارس السياسة ويصدّر الأصولية الدينية. هو مسؤول عن التصدير ونحن مسؤولون عن التلقي. كان بإمكاننا تعلّم أفضل ما في حضارة الغرب. لكننا استخدمنا وتبنينا أسوأ ما في حضارته. فلنتحمل مسؤولياتنا! اليابان، كوريا، معظم أسيا، الشرق الأقصى، وحتى الصين، أصابها ما أصابنا لكنها استوردت من الغرب حداثته. والمجتمعات الإسلامية استوردت فاشية الغرب الأصولية. هم استوردوا أفضل ما في الغرب بينما استورد المسلمون أسوأ وأسفل ما فيه. استورد الإسلاميون ما يناسبهم من أجل التقدم واستحواذ أسباب القوة. استورد المسلمون ما يناسب ضعفهم وهزيمتهم، وما يناسب أسباب الضعف لديهم، فتحولت عقدة التفوّق إلى دونية ثقافية وسياسية.
انهزم الغرب في أفغانستان، بمعنى خروج دون تحقيق الأهداف المعلنة ببناء الدولة وإعادة تشكيل المجتمع. لكن ذلك كان نفاقاً. نجح الغرب في تدمير ما كان موجوداً من الدولة والمجتمع. انهزم ونجح. في ذلك تناقض. ربما كان التناقض مفتعلاً. الذين منا يقولون بهزيمة الغرب غافلون عن الحقيقة. والذين منا يقولون بنجاح الغرب غافلون أيضاً عن الحقيقة. والحقيقة أن الغرب مزدوج الحقيقة. له وجهان مثل الإله اليوناني يانوس. الوجه البشع للغرب هو دائماً الذي ينتصر علينا وعلى الغرب ذاته. ألا تنتصر الرأسمالية على شعوبها ذاتها، وذلك في البلدان المتقدمة؟ لماذا ينتظر منهم أن يعاملوننا غير ما يعاملون شعوبهم؟ يخطىء من يظن الغرب وحدة متجانسة. هل الغرب كله جيوش كاسرة متوحشة أم أن هناك قوى سلام وحرية؟ ربما كانت هي الأكثرية في بلدانها لكن ديمقراطيتها لا تسمح لها أن تتفوّق على أفرقاء الحرب والعدوان. علينا أن نتذكر المظاهرات الضخمة في الغرب ضد الغزو لأفغانستان والعراق. ربما انهزم الغرب لكن الرأسمالية هي المنتصرة دائماً علينا. على شعوبنا وعلى شعوب الغرب. أن نعادي الامبريالية الأميركية والغربية عموماً، فهو واجب علينا. لكن هذه الامبريالية هي وليدة الرأسمالية. مع توسيع أفق إدراكنا يمكن أن نفهم ذلك. ثم نعادي الغرب ليس لأنه غرب بل لأنه رأسمالي، بل هو رأس الامبريالية.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق