الشعر بحر بلا ضفاف في “السفير”. لهفي على الذين لا يعرفون السباحة!
والشعر أجيال ومعارك بين الأزمنة، وصراعات مطرزة بالوشم بين رؤى متباينة لدنى تجيء من الأحلام أن تأخذنا إليها مسحورين بموسيقى الخطو المنغم للحب على أوتار الرغبة والخيبة وانكسار الوصل على عتبة التمني.
والشعر في “السفير” مدارس تتوزع على الطوابق، حتى ليندر القارئ أو المستمع. ويبدو أن الشعر أيضاً ينتقل بالعدوى كما بالوراثة التي يمكن أن تمتد إلى الجد السابع.
وقديماً كان كل عربي شاعراً حتى يثبت العكس، وها هو الدليل في جيلين أو ثلاثة يتجاورون متحاقدين في “السفير” ليؤكدوا الميزة الباهرة في العرب كأمة شاعرة.
خلال شهر واحد انهمر الشعر ديوانين لزميلين يحلقان بعيداً عن تفاهات السياسة التي نغرق فيها حتى الثمالة فلا نعود قادرين على التمييز بين السوسن والخروب أو بين الياسمين وشجيرات العليق اليابسة.
باحت لنا عناية جابر ببعض أسرارها في”طقس الظلام”.
ورمى لنا اسكندر حبش “نصف تفاحة” وهو يهم بأن يتزوج النصف الآخر.
عناية جابر: بعدما تتعرف إليها يسقط إلى الأبد الشك في أن القط والنمر واحد متحول. ما أن تشدك الوداعة وتخدرك تلك الاستكانة الظاهرة حتى تصعقك التماعة العينين الآتية من بئر الشراسة السحيق، ويصعب بعد ذلك أن يستوي الحوار بين الزئير المكبوت للمرأة – النمر وبين الهمس الصارم للطفلة الهرمة.
فضاحة هي الكلمة متى اتشحت بالموسيقى فغنت الرغبة وعشق الحياة وولجت الأرض الحرام واثقة من أن متلقيها سيتخفف من ادعاءاته الأخلاقية ليطير إليها مسقطاً عليها، أو مستمداً منها القوة لابتناء أحلامه الخاصة.
فضاح هو الظلام الذي انسحبت إليه عناية جابر لتشع عبره أميرة للوجع لا يدركها سلام، ولتمارس انتشاءها الأسود، ولتكتب في “العالم المفرغ خلف استدارة رأسه”.. وهي تسحب رداء الليل على امتداد النهار لكي تظل تشمه في مسامها “بعدما يغلق الرفاق نوافذ عطورهم العالية”.
هل هي ثملة للغاية فداهمها الغرام، أم أنها مغرمة للغاية فداهمتها عربدة الرغبة؟
القطة في عناية جابر تتكور حباً،
والنمرة في عناية جابر تتقافز عبر السكون حباً،
والصوت المستاعر لإخفاء الهمش الدافئ المخبأ بحرص بين الضلوع يكاد لا يفعل غير الوشاية وغير الإعلان عن لا شيء في الصدار أو في الذهن أو ي العينين أو على سن القلم أو في ارتعاشة النغم المطلق كالنيل “النجاشي”.
الحب. الحب. الحب. تكفي هذه الكلمة السحرية لملء آلاف الدواوين. وكلما صار طقس الظلام دامساً أكثر شع الحب مزيداً من القصائد للديوان المفتوح منذ بداية التكوين والذي يتسع لكل العاشقين برغم ادعاء كل منا أنه الأول والأعظم والأبقى حباً وغنه أيضاً الأخير.
وللحب جنايات كثيرة، بعدد الدواوين التي اصطنعها أو استولدها. بعدد الذين سحرهم شعراء.
لولا الحب لما عرفنا الشعر.
ولولا الحب لما ضجت جنبات “السفير” بهذا القدر من الشعراء وقصائدهم التي لما تكتمل.
على أن اسكندر حبش قرر سلفاً أن يهجر الاكتمال: قد تكون الكلمة الواحدة ديواناً. والمساحات البيضاء المخلاة في الصفحات الصغيرة لنصف الديوان ليس فراغاً، وإنما هي مجال تنفس لتلك القصائد الطويلة، الأحزان المعتقة، والأفراح ذات الصهيل التي تحتشد جميعاً في كلمة واحدة، وقد تمتد فتتوسع لتلمأ فضاء السطر.
واسكندر يستوطن الحزن، لا يغادره إلا نادراً، ثم يحن إليه وهو فيه، فيكاد يستغفر عن ضحكمة سمعها أو عن ابتسامة شعت فجأة في سحاء الانكسار والخيبة.
من قلب العتمة يخاطبنا اسكندر. إنه يرفض الخروج منها. لعله يخاف. لعلها حصن الأمان. خارج العتمة الحرب والضحايا الذين أعطونا أصواتهم، حبهم، وصورهم ورحلوا: لمسة فقط لنعود من العتمة، لنذهب إلى الليل.
يدهم الحب اسكندر حبش فيهزه هزاً عنيفاً، يخلخله، يكاد يسحبه من العتمة إلى الليل، ولكنه سرعان ما يتقوى بالحب ويعود إلى العتمة: “لأن نهارنا يغلق غيابه، لأن العالم لا يحتويك”.
واسكندر حبش يكتمل في النسيان، والنسيان مهرب من الموت الذي تجيئك أنفاسه من كل قصيدة، ويخيم ظله الأسود على الكلمات المرقشة للحنين الأشهى من الليل.
منذ هر، أحاول – مثل جيلي كله – أن أضيف إلى الشعر الذي تعلمته أو استسغته فحفظته، كأجيال عديدة قبلي، أنماطاً أخرى استولدتها الأزمات الجديدة، وأعطتها اسمها، وأضافتها إلى “الديوان”.
منذ دهر، تحتدم في داخلي معركة شرسة، فليس سهلاً علي أن أراهم يحرقون “الديوان” ويتلفونه ويمزقون أصوات أولئك الذين صنعوا لنا وجداننا واستوطنوه. علمونا الشعر وفتحوا لنا الباب المرصود لعالم الأحلام وعرفونا كيف نغني، وكيف نلثغ الحب والشهوة واللحن الشجي.
هل لا بد من أن تهدم القبائل الجديدة قصور مجد السابقين؟! هل لا يعيش حبنا الحديث إلا إذا أعدنا قتل قيس ليلى وجميل بثينة؟!
هلا لا تصنع الثورة إلا بأكفان امرئ القيس وظرفة بن العبد وجرير والأخطل والفرزدق والمتنبي وأبي العلاء وصولاً إلى أحد شوقي وبشارة الخوري وأمين نخلة وعمر أبو ريشة وسعيد عقل الأول؟!
هلا لا يولد الجديد، أو الحديث، إلا بعد إثبات الموت المطلق لوالديه؟!
هل يخترع الشعر هؤلاء الذين لولا الحب ولولا الذاكرة التي تعج بالمحبين والشعراء لما غنوا شطراً في بيت، ولا نظموا “آها” واحدة في اللحن الخالد الذي لا تكف هذه الأمة عن الترنم به لتسلي أحزانها أو لتستولد من جمر الحزن نار الثورة والتغيير؟!
عناية جابر واسكندر حبش سطران جديدان في الديوان.
في “السفير” مصباحان جديدان ينبثقان من قلب “الظلام” و”العتمة” لأسمين يشهقان حباً، ويحاول كل منهما أن يكمل الآهة الحارقة باللذة.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان