لا جدال في خطورة الدور الذي لعبه ملك المغرب الراحل، الحسن الثاني، خلال حكمه الطويل الذي امتد لما يقرب من أربعة عقود، إذا ما أخذنا في الاعتبار أنه قد باشر السلطة فعلاً من قبل أن يرحل والده العظيم محمد الخامس.
مصدر خطورة الدور أن الحسن الثاني لم يكن مجرد امتداد لمحمد الخامس، بل لعله في أمور كثيرة قد اختلف عنه كثيرا، ولعله فعليا قد اختلف معه فخرج على ما كان يرمز إليه »السلطان« المجاهد الذي واجه الاستعمار الفرنسي وقاتله وتحمّل النفي ومشاقه حتى انتصرت قضية بلاده فنالت استقلالها، فعاد إلى عرشه ملكا شعبيا ورمزا للصمود الوطني وإرادة التحرر.
أما الحسن الثاني فقد أمضى العقدين الأولين من حكمه في مواجهة مفتوحة مع شعبه (المقدِّس للملكية والمسلِّم بشرعية حكم الأسرة العلوية) ومع جيشه، كلفت المغرب الكثير من الاضطراب والدم، قبل أن يستتب له الأمر، ويستكين »الشارع« ممثلاً بأحزابه ذات التاريخ المجيد (حزب الاستقلال، ومن ثم الاتحاد الاشتراكي) وتقلباته العريقة والتي قدمت للحياة السياسية المغربية خاصة والعربية عموما، بعض أبرز المناضلين المتميزين بالصلابة وعمق الوعي القومي، وأبرزهم ذلك المقتول غيلة في باريس بخدعة ملكية فرنسية المهدي بن بركة.
ليس هذا حديثا في الماضي وعنه، فسياسة الحسن الثاني العربية، وبالتحديد في الصراع العربي الإسرائيلي، أثارت وما زالت تثير خلافات حادة وشكوكا عميقة حول استهدافاتها أو نتائجها الفعلية، وما إذا كانت قد خدمت وأفادت إسرائيل بأكثر مما نفعت فلسطين وشعبها، وهل ساعدت على الوصول الى »سلام إسرائيلي« أو ساعدت وبررت الاستسلام العربي بدءاً بالتمهيد لكامب ديفيد وخروج السادات على أمته، وانتهاء بالدلالات الفعلية للتظاهرة السياسية الدولية التي شيَّعت الراحل المغربي الكبير إلى مثواه الأخير.
.. وهي الجنازة الثالثة التي تستخدم لغرض سياسي معلن هو »تطبيع« العلاقات الإسرائيلية العربية، على مستوى القمة، وتحت الرعاية الأميركية دائما، بعد جنازتي رئيس الحكومة الإسرائيلية المقتول برصاص الأكثر تطرفا، إسحق رابين، وملك الأردن الهاشمي الحسن بن طلال.
وعلى عكس إسرائيل، فإن الجنازتين الملكيتين العربيتين تدلان بوضوح على أن بعض الحكام العرب يكبرون دوليا بمعزل عن أقطارهم، إن لم يكن على حسابها، فيختزلون الأوطان والشعوب والقضايا بأشخاصهم، فإذا ما غيّبهم الموت، تصاغرت صورة »الدولة« وتضاءل دورها، بينما الصفقات السياسية تعقد لمصادرة الغد سلفا، مستغلة انغماس »الجماهير« في حزنها العميق والذي يعكس قلقها الجدي بل خوفها من المستقبل الغامض وحيرتها المربكة ازاء »المجهول« الذي ستواجهه بعد غياب من لم تعرف غيره حاكما وقائدا وسياسيا وموجها لشؤون الدين والدنيا وما بينهما!
مع انطلاق الجنازة، أمس، كانت الجماهير المغربية تهدر بهتافات »سياسية«، من خارج السياسة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر… لا إله إلا الله، محمد رسول الله!
أما المذيعون المحشرجة أصواتهم باللوعة فكان واحدهم لا يتعب من ترداد ما يعكس خوفه، هو الآخر: اللهم هون علينا! اللهم إنا لا نسألك رد القضاء، إنما نسألك اللطف فيه!
وكان لافتا أن يبدو الأفقر من المغاربة الأعظم بكاء، أو الأعظم شعورا بالفاجعة، وأن يلوحوا بالعلم الأحمر ذي النجمة الخماسية الإسلامية وكأنهم يندبونه، وأن يتصرفوا وكأنهم وقد عرفوا إلى أين يرحل مليكهم فإنهم لا يعرفون الى أين سيذهبون هم بعده!
لكأنها شعوب تسير في جنازتها هي!
كأنما هذه الشعوب لم تعد تخرج إلى الشارع إلا في الموت، وبعد غياب مَن كان يملأ الشارع بذاته ويقفله على الآخرين!
على أن اللافت أكثر في كلمات التعزية والتأبين، الغربية أساسا، هو ربطها بين جنوح الحسن الثاني في أواخر حكمه الى شيء من الديموقراطية، وسماحه بانتخابات حرة نسبيا فازت فيها أحزاب المعارضة التي فقدت الكثير من زخمها الشعبي، ومن ثم قبوله بأن تشكل هذه الأحزاب الحكومات الملكية بالتناوب، وبين الجهد المتميز الذي بذله الملك الراحل لتسويق الصلح التاريخي بين العرب والإسرائيليين،
كأنما الديموقراطية هي »ثمرة إسرائيلية« بالنسبة للعرب، لا تجيئهم إلا من السلام المفروض عليها مع عدوهم »القديم«، بالرعاية أو بالوصاية الأميركية (التي يبدو ان نتنياهو قد ضاق بها فخرج عليها، وأن باراك قد طوعها فجعلها شراكة لإسرائيل فيها… حق النقض الفيتو).
… وها هو الرئيس الجزائري الجديد عبد العزيز بوتفليقة يهتبل المناسبة ليعلن انتسابه الى نادي الحسن الثاني لمصالحة العرب والإسرائيليين، محاولاً التعويض عما فاته، متبرعا بأن يكمل مسيرة من قاتلته جزائر بومدين، والتي كان بوتفليقة وزيرها وسفيرها ولسانها ومحاميها البارع، سنوات طويلة من أجل قضية مزورة حملت اسم »الجمهورية الصحراوية«!
إنه الخروج من خطأ فادح إلى خطأ أفدح!
… لعلنا نحن أيضا قد خرجنا عن آداب الجنازات، فتوغلنا في الغلط، وبالغنا في ذكر محاسن موتانا.
ومع التنويه بأن آخر وصايا محمد الخامس لولي عهده، آنذاك، الحسن كانت: كن ديموقراطي الطبع يا بني، كن شعبي الميول والنزعات!
حفظ الله المغرب. حفظ الله الجزائر. حفظ الله فلسطين. حفظ الله العرب.
… مع التقدير العظيم لشعب المغرب ونضالاته المجيدة، ومساهماته التي لا تنسى ومقاتليه الأبطال الذين جاؤوا متطوعين أو نظاميين فجاهدوا من أجل فلسطين، ومن أجل تحرير الأرض العربية من الاحتلال الإسرائيلي، منذ نكبة فلسطين في العام 1948 وحتى حرب 1973… وجبل الشيخ متوّج بدماء بعض شهدائهم الأبطال.
طلال سلمان
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان