تستحيل إدارة نقاش منطقي مع الأحلام…
وتستحيل، بالتالي، محاورة هذا الكمّ الهائل من الإسقاطات والتمنيات والآمال والأوهام التي يعيشها «فلسطينيو الداخل» وهم يستشعرون نشوة «العودة» إلى الوجود من خلال الانتخابات التشريعية التي سيخوضون غمارها لأول مرة غدد، بعد انقطاع طال واستطال مع دهر الاحتلال الإسرائيلي!
إنهم يعيشون حالة من الهوس والاندفاع لتأكيد الذات تكاد تبلغ حد الانفجار العاطفي، مما يلغي السياسة أو يكاد، ومع ذلك فهم يفترضون انهم يصوتون لكي يمسكوا ـ أخيرد ـ بالقرار السياسي..
إنهم يذهبون إلى انتخابات بغير سياسة، إذ ان الأطراف السياسية الجدية وذات الوزن أصرت على موقف المقاطعة توكيدا لاعتراضها الأصلي على «الإطار السياسي» الذي يحكم هذه الانتخابات ويجردها من مضمونها السياسي، بل ويحولها إلى عكس الهدف المرجو منها!
فجأة وجد فلسطينيو الداخل أنهم يستطيعون أن يقولوا، أن يتوهموا أنهم يقررون ولو في أمر تفصيلي،
لا حدود لسحر هذا الصندوق الصغير الذي جادلت إسرائيل على موقع الفتحة فيه وهل تكون فوق أم إلى جانبه، ثم انتهت المساومة باتفاق على أن تكون على زاوية الطرف الأقصى.. فوق!
لا حدود لسحر هذا الصندوق، فكيف إذا صار الصندوق إثنين: واحدا للرئيس والثاني لأعضاء المجلس التشريعي ـ التنفيذي الذي يدوخ المرء في فهم وظيفته فلا يعرف بالضبط.
لا يناقش المتضور جوعا نوع الخبز، ولا يناقش السجين المظلوم طبيعة الطقس في الخارج ليقرر قبول الافراج عنه، ولا يناقش الملغى والمشطوب شكل بطاقة الهوية التي ستعيده إلى… الحياة!
ü ü ü
التفاصيل انتخابية تماما: مئات من المرشحين (676) يتنافسون على 88 مقعدا، في 16 دائرة انتخابية (في غزة والضفة، ما عدا القدس)، بينها 6 مقاعد للمسيحيين وواحد للطائفة السامرية، وعدد المكاتب 1689، وحركة «فتح» وحدها رشحت 77 (رسميا) بينما رشح العديد من «الفتحاويين» أنفسهم كمستقلين بعدما أغلقت أبواب «اللوائح الرسمية» في وجوههم،
وليست تلك هي المواجهة الوحيدة بين «جماعة الداخل» و«جيش الخارج» العائد الى السلطة والذي يكاد يحتكرها فعلاً، فعرفات البارع في الحيل الانتخابية «اخترع» مجموعة من الدكاكين الرديفة للحركات السياسية المقاطعة (حماس، الجبهة الشعبية، الديموقراطية)، اما بتبني بعض المنشقين وإما بشق بعض المشوقين الى نعيم السلطة.
وفي التقديرات أن المرشحين، وفيهم مجموعة من «أثرياء الثورة» ومجموعة أخرى من «أثرياء السلطة»، قد أنفقوا في حملتهم الانتخابية حوالى 30 مليون دولار، في بلاد تعيش غالبية شعبها في مخيمات اللاجئين، وتتعالى صيحات سلطتها طلبا للمساعدات الدولية: الوجاهة مكلفة، و«الصفقات» تستوجب شيئا من الكرم!
في التفاصيل أيضا أن الانتخابات ستجري في ظل رقابة دولية تتولاها لجان، يقف في مقدمها رئيس البرتغال معززا باسم الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر والرئيسة السابقة لحكومة بولونيا (أيام فاليسا، طيب الذكر)، ومعهم 300 مراقب أجنبي لضمان الحيدة والنزاهة!
ü ü ü
التفاصيل انتخابية تماما، كما في بلاد الناس: مرشحون ومهرجانات وصور ورشى وأقلام اقتراع وصناديق ومراقبون عن المرشحين ولوائح ومظاريف حمراء (للرئيس) وبيضاء (للآخرين)…
لكن السؤال المعلق يتصل بالوظيفة السياسية لهذه الانتخابات المعقمة ضد السياسة!
فماذا تعني ديموقراطية الانتخاب في ظل الاحتلال؟!
ما هي مهمة مجلس تشريعي في مساحة من الأرض ليست لها هوية الكيان السياسي، وفي ظل «سلطة» تبقى شكلية، بالمعنى السياسي، ومهما بلغت قوتها البوليسية، طالما أنها لا تمارس ـ وبالقانون ـ أي حق من حقوق السيادة؟!
لقد بادر نائب وزير الدفاع الاسرائيلي أوري أور بتهنئة عرفات على «أكثر انتخابات حرة يشهدها العالم العربي»، من قبل أن تتم العملية الانتخابية،
وبمعزل عن موقف القوى المقاطعة، وهي قوى لها ثقلها الشعبي المؤكد، لا سيما حركة «حماس»، فإن السؤال الأساسي يظل واحدا: ما هي الوظيفة السياسية لهذا الانتخاب غير السياسي؟!
وما هي هذه الديموقراطية التي تفصل بين حق المواطن في اختيار مرشحه (الرسمي) وبين إعلان موقفه من الاحتلال ومن الاتفاقات المعقودة معه، والتي ينتخب المجلس التشريعي لكي يضفي عليها شيئا من الشرعية الشعبية؟!
إنها ديموقراطية معلقة في فضاء مغلق بالحراب الإسرائيلية!
بل هي ديموقراطية تزين، في جانب منها الاحتلال، وتمنحه شهادة حسن سلوك وتصب مياها يغسل بها يديه الملطختين بدماء الانتفاضة وشهداء النضال من أجل التحرير، وآخرهم البطل يحيى عياش،
مع ذلك فلا يمكن مناقشة الفلسطيني المقموع دهرد في إقباله على ممارسة «حقه» الانتخابي!
ü ü ü
مع التفهم العميق لهوس فلسطينيي الداخل فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الانتخابات الفلسطينية لا تختلف في وظيفتها السياسية عن مسلسل الانتخابات التي شهدتها أقطار عربية أخرى (وغالبد بالطلب.. الأميركي).
كانت وظيفة تلك مثل وظيفة هذه الانتخابات: أن تؤكد أن «الرئيس» هو «الرئيس»، وأن السلطة هي سلطته وأن الشعب هو في جملته «ممتلكاته»… لا يملك إلا أن يقول له «نعم»!
أي أن وظيفة الانتخابات أن تشرّع أو تشرعن الأمر الواقع، وأن تمكّن «الرئيس» المعزّز بعدها بثقة «الشعب» من المضي قدمد في التفرد والانفراد واحتكار السلطة والمال والسلاح، وباسم الديموقراطية الآن.
الديموقراطية في خدمة حكم الفرد، وبشهادة ممثلي الديموقراطيات العالمية!
على أن الموقع «الفلسطيني» المتميز يعطي للديموقراطية تحت الاحتلال أبعادد خطيرة منافية لأبسط حقوق الإنسان.
فبقدر ما تتوفر شهادات «عالمية» للديموقراطية الفلسطينية المبتورة السياق عن مضمونها السياسي الوطني، ستتكدس الاشادات بالاحتلال الإسرائيلي ولجيشه الذي استولد ثم حمى «أكثر الانتخابات حرية» في العالم العربي!
لأول مرة في التاريخ ستشهد ديموقراطية المقهور لصالح المحتل القاهر!
ولأول مرة في التاريخ سينتخب «شعب» لا يملك أن يكون شعبد، فضلاً عن التمتع بحقوق بسيطة مثل التنقل بحرية في «بلاده»، بل وفي مدينته ذاتها، كما في الخليل، فضلاً عن ادعاء انتمائه إلى مدينته التاريخية المقدسة ذاتها (كما في القدس)،
ربما لهذا يجري خبراء الديموقراطية تمارين عملية للفلسطينيين على ممارسة حقهم الانتخابي، فيدلونهم كيف يملأون الأوراق، وكيف يدخلون إلى أقلام الاقتراع، وكيف يسقطون أوراقهم في الصناديق المسحورة!
مرة أخرى يعامل العرب وكأنهم «قرود تجارب»،
وللديموقراطية موجبات ثقيلة أبسطها أن يعلمنا المحتلون كيف نحبهم ونكره أنفسنا!