مع بداية عهد الرئيس الراحل الياس سركيس الذي اختاره الرئيس ـ الامير فؤاد شهاب خلفا له وتعذر انتخابه في الدورة الأولى التي فاز فيها الرئيس سليمان فرنجية، فتأخر تسلمه الرئاسة الأولى حتى العام 1976.. فتسلم القصر الجمهوري في حين كانت الجمهورية تعيش حالة من الحرب الاهلية تشل الدولة ومؤسساتها..
مع بداية ذلك العهد، تمت الاستعانة بـ”قوات الردع العربية” التي شكلتها جامعة الدول العربية من كتائب عدة من جيوش الدول العربية، وان ظلت اكثريتها المطلقة من الجيش العربي السوري ومخابراته متعددة الاختصاص.
كان “طبيعيا” أن تُفرض الرقابة على الصحف، وان يتولاها جهاز الامن العام. وكانت تلك تجربة مبكية ـ مضحكة.. فهذا الجهاز الامني ذو المهمة السياسية، لا علاقة له بالصحافة، ولا يعرف “العاب” اهل القلم و”حيلهم” واستخدام فنون اللغة من توريات وتشابيه توازي “كليلة ودمنة”، ويخاف من المس بأي نص ديني (قرآن كريم او حديث شريف او آيات من الانجيل الخ..)
وهكذا أمكن للراسخين في علوم الصحافة وفنون الكتابة أن يتلاعبوا برجال الامن العام المكلفين اداء مهمة ثقيلة عليهم، ومن خارج ميدان اختصاصهم، باللجوء إلى نصوص دينية وأحاديث تمت الاستعانة فيها بابن تيمية…او باستئذان سماحة المفتي او رئيس المجلس الشيعي الاعلام لتغطية ما يراد قوله بكلمات من هذين المرجعين الكبيرين “لتحصين” ما يُراد ايصاله إلى الناس من “معلومات” او آراء مخالفة للنهج الرسمي المعتمد.
*****
عين الرئيس الياس سركيس الامير فاروق ابو اللمع، مديراً عاما للآمن العام.
وفي اول لقاء لغداء معه في فندق “بريستول” حرص على تعريف نفسه بالعبارات التالية: داعيك الامير ـ اياك أن تنسى الامير ـ فاروق رئيف قاسم حسين ابو اللمع. والدي ماروني وجده درزي وجد جده مسلم سني، ووالدتي أرثوذكسية، وزوجتي من اللاتين، وعندها ثروة وثلاث بنات… وكنت اطمع أن اكون في عهد صديقي الذي كنت الاعبه في “الورق”، وزيراً للخارجية او ما يوازي هذا المنصب، ولكنه اختارني مديراً للعسس..
كان طبيعيا أن تنشأ مودة، يعززها الاعجاب بالظرف، مع هذا “الامير” الذي عهد إلى جهازه، في جملة المهام، أن يتولى الرقابة على الصحف..
كذلك كان طبيعيا أن تتعارض الصداقة مع موجبات المهمة المكلف بها بالرقابة على الصحف، وحذف كل ما له معنى سواء في الافتتاحيات او مقالات الرأي او الاخبار السياسية، ليس عن لبنان فحسب بل عن مجمل الدول العربية.
ولقد استخدمنا كل ما نعرفه من اساليب “التحايل” على الرقابة، بما في ذلك تغطية ما نريد قوله ببعض الآيات البينات او بكلمات لسماحة المفتي او شمس الدين لتحصين النص..
كان تواصلنا دائماً مع “سمو الامير فاروق”… وبين إشكال وآخر كان يدعوني إلى الغداء، ويرفض دعوتي، فهو الامير وانا من الرعية.
لكن “ازمة خطيرة” كانت تتربص بنا: فقد انشق الضابط سعد حداد عن جيشه اللبناني وانضم إلى العدو الاسرائيلي الذي سلحه وحماه ورعاه ومكنه من “احتلال” منطقة في جنوب لبنان، تحت رعايته..
وكان طبيعيا الا نسكت عن هذه الخيانة.. وهكذا فقد طلبت من التحرير الا نرسل “بروفة” الجريدة إلى الرقابة..
في الصباح الباكر وجدت الامير على الخط.. قال لي من دون مقدمات: لقد هلكتني بسعد حداد، وانا احدثك للتفاهم معك على مدة تعطيل “السفير” لمخالفتها تعليمات الرقابة..
قلت: اذن عطلنا حتى نهاية عهدكم الميمون. اننا نحاول حماية جيشنا الوطني بكشف هذا الضابط الذي باع وطنه وشعبه للعدو، فاذا ما سكتنا عن خيانة هذا العميل كنا كمن يحمل الجيش ارتدادات خيانته، وكأنه يقبل بها ويتسامح معها..
قال: اذن، نتغدى معاً بعد التعطيل!
العاب بريئة مع رقابة ساذجة
كان الزميل ناشر البهجة والود شوقي رافع أحد أبرع حافظي “الأحاديث” و”نهج البلاغة” وبالتالي فقد أفاد من “موهبته” هذه “لتمرير” الكثير من التعليقات والاخبار الخاصة على عيون الرقباء المساكين الذين لا علاقة لهم بالمقدس من الكلام.
ولقد “ألف” شوقي رافع من المقدمات الخادعة لرجال الأمن العام أكثر مما ألف او نطق “ابو هريره” من أحاديث نسبها إلى الرسول العربي محمد بن عبدالله.
كانت البداية حين سمع الموظف الذي يحمل “بروفات” الصفحات إلى الرقابة، قبل السماح بطبعها، حواراً بين اثنين من رجال الامن العام حول “حديث شريف” هم بحذفه فصاح به الاول: اوعى.. هذا حديث شريف؟ قال الثاني: وماذا في الامر؟! ورد الاول: ستكون فتنة، ندفع ثمنها نحن والبلد كله، فهذا كلام لرسول الله الني محمد، صلى الله عليه وسلم..
وبطبيعة الحال فقد تم “العفو” عن الحديث الشريف..
لكن تلك كانت البداية، فقد عكف شوقي رافع، بمساعدة بعض المتدينين من المحررين، على “تأليف” جمل شبيهة في تركبيتها اللغوية لتمرير بعض المواقف المعارضة او المعترضة، او بعض الاخبار المهمة، بتبطينها نصوصاً تشابه، شكلاً، “الحديث الشريف” لطمس دلالاتها السياسية..
أما ذروة التحايل فكانت حين نشرنا صورة مقتطعة من مجلة “باري ماتش” الفرنسية، عن زفاف كريمة الرئيس المصري الراحل انور السادات من نجل رجل الاعمال المصري المعروف عثمان احمد عثمان… وكان الحفل اشبه بليالي ألف ليلة وليلة.
ولقد نشرنا بعض صور الزفاف الفخم، مع اضافة انه قد برز في الحفل مغنٍ شاب مجهول وغنى للعروسين ولمصر قصيدة للشاعر الشعبي المعروف احمد فؤاد نجم ومطلعها يقول:
“مصر يا امه، يا بهية يا ام طرحة وجلابية
الزمن شاب وانت شابة هو رايح وانت جاية”
إلى آخر القصيدة التي كان يجتمع لغنائها الطلاب والاساتذة ومختلف اصناف المعارضات في مصر..
المهم، أن السفير المصري في بيروت، آنذاك، كان عند الساعة الثامنة صباحاً في وزارة الخارجية ليقدم احتجاجاً على “تساهل” الرقابة مع جريدة “السفير” التي تعكر العلاقات مع مصر..