الزمان: أواسط الخريف من العام 1962، أي قبل أربع وثلاثين سنة.
المكان: فندق كارلتون بالكويت، وكان باعتباره الأفخم أو ربما الأوحد دار ضيافة لكبار الزائرين لتلك الإمارة الصغيرة والتي كانت تحبو، بعد، نحو استقلالها في ظل التهديد المفتوح من طرف حاكم العراق الملوث بعقدة عظمة استثنائية قل نظيرها، »الزعيم« عبد الكريم قاسم.
أما الضيف الذي كان حبة العقد وملتقى المتأدبين، ومتذوقي الشعر وعمود مجلس الأنس فكان الشاعر الكبير أمين نخلة.
كنا نتلاقى يومياً في رحاب أدبه وظرفه، فنسمع ونطرب، ونسمع ونبتهج لأن أمين نخلة كان محدثاً ممتازاً وراوية للشعر لم يهمل شاعراً إلا وحفظ له بعض أجمل ما قاله… ثم إنه كان، إذا خلا المجلس من الثقلاء والحشريين والمتزمتين، انطلق يروي لجلسائه الغلمانيات والخمريات و»الشعر الخارج« حيث يتلاقى الكثير من المبدعين.
وفي الكويت اكتشفنا مع الشاعر الراحل »الشاي البارد«،
كان شاعرنا الكبير يفضل أن ينعقد المجلس من حول »قارورة« هي »محبس الوحي« فإذا ما فتحت انطلق مارد الشعر عفياً فأنعش وأطرب.
وعلى الطريقة اللبنانية أمكن ترتيب الأمر، خصوصاً وأن إدارة الفندق كانت معقودة اللواء لأحد الناجحين في مجال الفندقة من اللبنانيين: صار »الشي البارد« يجيء إلى المجلس كلما انعقد.
وذات يوم احتدم الجدل حول أبيات من الشعر، فحسمه أمين نخلة بأن ثبت القاعدة مستشهداً بالقرآن الكريم.
واكتشف الحضور في أمين نخلة جانباً آخر لم يكن معروفاً: لقد كان يحفظ تقريباً كتاب الله جميعاً، وكان يتلوه كأفضل »مجوّد«. ثم انه يستمتع بالتلاوة، وهو قد صنّف السور والآيات بحسب الإعجاز اللغوي فيها.
وتعلّمنا منه عبقرية استخدام »الواو« في القرآن، وتذوقنا عبر تلاوته وشرحه المسهب عبقرية استخدام »الفاء« في القرآن أيضù، ثم أخذنا في رحلة أكثر إمتاعاً حين كان يعيد الربط بين شعر الكبار من شعراء العربية، كأبي تمام والبحتري والمتنبي وأبي العلاء المعري والفرزدق وجرير والأخطل، وبين القرآن الكريم.
قال أمين نخلة بلهجة قاض يصدر الحكم: ليس شاعراً مَن لا يحفظ ما أمكنه حفظه من القرآن،
وقال أمين نخلة وقد هزّه طرباً »الشاي البارد«: وليس مطرباً مَن لم تستحم أذناه يومياً بالتلاوة المباركة…
وذات عصر، رويت لشاعرنا المجيد والمقل أنني أعرف »خطيبته« زهية، من المختارة…
كانت زهية بنت »العيوقة« من آل قهوجي، ويبدو أن صلة نسب ما كانت تربط بين عائلتها وبين آل نخلة في الباروك.
وحسب رواية زهية (وقد عرفتها في مطلع الخمسينيات، وكانت قد جاوزت الستين من عمرها) فإن شاعر النشيد الوطني ووالد أمين، رشيد نخلة، كان يتردد على دارهم في المختارة ومعه أمين… وأن ملاك الحب كان يجيء دائماً معه ويبقى بعده. لكن الأقدار قالت كلمتها وكان الفراق، وكان أن عاشت زهية بقية عمرها تنتظر فارسها الموعود الذي لا يجيء.
دارت الأيام، وعدنا نلتقي في بيروت.
وفي كل مرة يطلبني فيها أمين نخلة هاتفياً كان يستخدم اسم »زهية«، وكنت أرد عليه بمطلع قصيدته الشهيرة: في الأشرفية حين جئت وجئتها…
في ذكرى رحيله العشرين: تحية للشاعر المبدع وأحد أئمة اللغة العربية، صاحب »المفكرة الريفية« التي لم تنل حقها من الرواج..، تحية للمقلّ لأنه استثنائي: أمين نخلة.
نبيل خوري وليلة القبض على.. الحاكم!
فاجأنا نبيل خوري بروايته الجديدة: »ليلة القبض على الصحفي«!
وهو قد فاجأنا بغزارة الانتاج، إذ اننا نسمعه يومياً وأكثر من مرة، في تعليقه الإذاعي، ونقرأه بضع مرات في الأسبوع في بعض الزميلات اللبنانية والعربية، ونجالسه ويجالس نقابة الندامى في بيروت وباريس ودمشق أحياناً والرياض أحياناً، هذا غير مجالس الأنس التي لا يصحبنا إليها.
ثم إنه قد فاجأنا، مرة أخرى، بالموضوع.
فلقد اختار هذا الصحافي المشدود إلى الرواية أو الروائي المشدود إلى الصحافة منذ نعومة… أقلامه، علاقة الصحافة بالحكّام في دنيانا العربية المغلولة الفكر واليد والإرادة، والتي لم يتبق لإنسانها غير الأحلام يعيش بها وعليها، في انتظار »الفرج« المجهول المصدر والمضيَّع موعده في غياهب التحولات الكونية المذهلة.
ولأن نبيل خوري خبر الأنظمة العربية جيداً، التقدمي منها والقومي، ما كان مصنفاً في باب الرجعية وما كان مداناً بتهمة الإقليمية والكيانية،
ولأن »النديم« في نبيل خوري كان يخترق أسوار الخلاف السياسي مع هذا الحاكم العربي أو ذاك.
أو ربما لأن النكسات والهزائم قد ألزمت الحاكم العربي بشيء من الاحتياج إلى الصحافة، لكي يشرح نفسه ومواقفه ويبرّر استمراره في موقعه طالما أسعفته صحته وأجهزته الساهرة على اجتثاث كافة أشكال المعارضة والمعارضين.
أو ربما لأن نبيل خوري كان أحد رواد صحافة المهجر، في الهجرة الثانية، حين أعاد إطلاق مجلة »المستقبل« من باريس متحدياً أبطال الحرب الأهلية العربية الدولية التي فجرت المنطقة العربية كلها انطلاقاً من لبنان.
ربما لكل ذلك مجتمعاً اكتسب نبيل خوري تجربة عريضة مع هذه الأنظمة الشوهاء والتي تبرّر نفسها غالباً بأنها أفضل من بديلها المحتمل، وبات سهلاً عليه أن يمارس رياضة المشي فوق شظايا الزجاج المكسور التي ترميها أجهزة الأنظمة على طريق »الفضوليين« من محترفي البحث عن المتاعب طلباً… للحقيقة!
»ليلة القبض على الصحفي« ليست رواية بوليسية. إنها صفحة أو صفحات مضيئة في حياة أي صحافي عربي جاء، آمن بأمته واختار أن يخدم تشوقها إلى المعرفة، إلى العدل، إلى الحرية، عن طريق الصحافة.
إنها مطالعة ماكرة أو مضبطة اتهام مغلفة بالطرافة ضد نظام القمع الذي يريد الصحافي شاعر بلاط، فيرهبه بالمنع والمصادرة والاعتقال الكيفي، فإذا صمد لهذا كله لجأ إلى السلاح الأبدي الفتاك: الذهب، فاشترى منه قلمه وجوَّفه وأحاله إلى سيف لا يقتل إلا صاحبه.
هي تبرئة ذمة…
أم أنها برقية تعزية بالصحافة العربية التي تتقهقر راجعة إلى العصر المملوكي، فتكاد تصير جارية في بلاط السلطان، بينما حركة الفكر والتقدم العلمي تعصف بالعالم كله فتغيره كما لم يتغير عبر تاريخه، وبسرعة تسبق النظر والصوت؟!
هل تسمح بتحريف بسيط، يا طويل العمر، بحيث يصبح العنوان: »زمن القبض على الصحافة«.
ملحوظة: يمكنك اللعب على اشتقاقات الكلمات، وإعادة تبديل مواقعها بما يرضي مزاج الندامى الذين يسمعون منك شفاهة… أصل الحكاية!
عيدنا إلى وصول.. هلّت تباشير العيد
يأتي العيد، دائماً، من البعيد، من المستقبل، أما أعياد الروزنامة الرسمية فذكريات سياحية وأيام تعطيل.
يأتي العيد من تجدّد العمر بالأمل، من مقاربة اليد لشمس الغد تكاد تمسك بأحزمة الشعاع فيها وتنثر النور أمام الساعين إلى تغيير الكون بإرادتهم القاهرة، بحماستهم الواعية، برفضهم الشرس الاستكانة للأمر الواقع، وبالعلم الذي من دونه ينقلب التغيير إلى عداوة للمستقبل.
العيد هو الغد.
وها هو الغد يستبق شمسه فيجيئنا ممتطياً جناح الحلم والوعد بالأفضل.
الغد هو التحدي.
مَن منا يعرف تلك اللغة المسحورة التي بها يفتح الباب المرصود للعالم الجديد الذي لا يمكن أن يكون مجرد امتداد لهذه الأيام الممسوخة والمحطومة التي نعيشها مغالبين يأسنا من القدرة على تبديلها، ورفضنا أن نستسلم لوقائعها المهينة لكرامة الإنسان فينا؟!
ما أجمل الغد وهو يتخذ صورتك ويمنحني صلة قربى نتيجة التباس الملامح مع وضوح المقصد.
ما أجملك غداً، حتى لو بقيتُ على بابه أنتظر موعداً لحوار يختزل الزمانين ويقرّب الأنامل من ملامسة الحلم حتى الاحتراق.
ما أجمل أن تستوطن الغد حتى وهو يسعى للافلات منك والتميز عنك بالإنجاز البهي الذي عجزت عنه.
الغد إلى وصول: إفسحوا الطريق لموكب الحب وقصيدته الأروع!
حوار الظل الواحد
قال الظل للظل:
يصير الصمت نشيجاً. تتيبس الكلمات فتتناثر كأوراق خريفية لا تستطيع ان تمنح ألوانها للبهجة، ولا تستطيع ان تعوض اللهفة إلى الربيع فهي الخاتمة وليست البداية.
ورد الظل على الظل:
اقرأ في صمتك خيبات عمري، فتتآكل حماستي لاستكمال مسيرة المستقبل، ويدوي في وجداني السؤال: إلى أين من هنا؟! وهل الاستمرار خروج من الفشل او توغل فيه؟! واذا كنت اعجز من ان اغير الذي كان فلماذا افسد ما سوف يأتي؟!
قال الظل للظل:
اذا كنت الماضي الذي ازهر ولم يثمر، فلماذا لا يكون غيري المستقبل؟! ولماذا الاصرار على ان ادفع ببصمتي ما لا رأي لي فيه؟لماذا عليّ ان أُحاكم وان أُحاسب مرتين: الاولى عما فعلت، بوعيي او بجهلي، والثانية عما لم افعل، خضوعاً لعاطفتي او لعقلي؟!
كيف ينقلب الانجاز الاعظم إلى شهادة قاطعة على العجز المطلق؟!
ورد الظل على الظل:
أين الخلل الذي يكاد يدمر الضوء والشعاع والبسمة وزهو الشباب وحلاوة انبثاق الأمل فجراً جديداً للايام الآتية؟! أين بدأ الخطأ، وكيف السبيل إلى وقف سيله الذي يكاد يجرف اعمارنا والتمنيات؟!
قال الظل للظل:
لا املك غير الاسئلة والحيرة والحزن.
لا املك غير حطامي. واشك في ان ينفعك الحطام!
ورد الظل على الظل:
ولكنك متى تحطمت حطمتني، افديك بحياتي، وهي لك ما بقيت فإن ذهبت ذهبت. ارأيت، لا املك حتى ان اهددك!
قال الظل للظل:
اذاً تعال إلى الحياة، ولنبدأ بمراجعة ترشدنا إلى نقطة الافتراق حيث نغدو اثنين صحيحين بدل أن نبقى واحداً معتلاً يشكو علته لمصدرها.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أكثر الكلمات التباساً هي كلمة »الحب«.
ليست كل شهوة حباً، وليست كل رغبة حباً، ولا يجيء الحب من قلب الحلم، بل الحب هو الذي يستولد الأحلام.
صمت للحظة ثم عاد يقول:
لو صدقنا ما نقرأه في الروايات عن الحب لامتنع الناس عن الحب. والحمد لله أن الناس لا يأخذون بما يقرأون، فكل منا يصنع قصة حبه بنفسه، ولا مجال في الحب للاقتباس. ليكن حبك حبك وحده، أما الرواية فتجيء بعد الحب بألف عام.