بعد سبات طويل تبدّى وكأنه إغماء وغياب عن الوعي، تفجرت الأرض العربية بانتفاضات شعبية عارمة كانت أسبابها قاطعة في وضوحها وشاملة في تعاظم أعداد المدفوعين إليها باليأس، فغادرت الجموع البيوت والمكاتب والمقاهي لتملأ الشوارع والميادين وساحات الجامعات.
أما أسباب الخروج لمواجهة السلطة بعد سقوط الخوف فكانت مــتعددة ومتنوعــة وموجــعة، أخطرها الأزمات الاقتصادية التي شلّت الدولة والقطاع الخاص الذي كان يحظى دائماً برعاية أهل الحكم، نظراً للشراكة بين الفريقين على حساب الشعب المتروك لقدره في وهدة فقره وامتناع أسباب التقدم عليه.
بعد سنوات طويلة وحافلة بالتطورات، يسود الآن شعور بالخيبة والإحباط ومرارة انطفاء الأمل، وتتفجر الأسئلة موجعة:
هل انطفأ الغضب الشعبي بالعجز عن التغيير المرتجى أو بالمخادعة والتحايل وحرفه عن مساره لإعادة استيلاء الطغيان بصورة ملطّفة ببعض شكليات الديموقراطية التي لا تفعل غير إعلان اغتيال الانتفاضة وإقفال الشوارع أمام احتمال تفجرها من جديد؟
أين اختفت الملايين التي خرجت إلى الميادين والشوارع تهدر بمطالبها وأولها استعادة حقوقها في وطنها وحقوقها على دولتها؟ هل توفَّر «العيش»؟ هل سادت الحرية؟ هل عادت الدولة إلى شعبها؟
هل لحقت انتفاضة 25 يناير 2011 بشعار ـ عيش ـ حرية ـ وحدة وطنية ـ ميدان التحرير في القاهرة بانتفاضة 25 يناير 1972، في القاهرة أيضاً ضد إضعاف الجيش بطرد الخبراء الروس وكان شعارها «ح نحارب!، «أم هي لحقت بانتفاضة الخبز في العام 1977؟
وهل الخيار الوحيد المتاح: الحرب الأهلية أو تجديد النظام من داخله، بما يغتال حلم التغيير الجذري.
إن أخطر إنجاز للانتفاضات العربية المتوالية التي بدلت في الخريطة السياسية لهذه المنطقة، أنها كشفت غربة الأنظمة الحاكمة عن فهم شعوبها بهويتها الأصلية غير القابلة للتعديل أو التغيير، وطموحاتها إلى مستقبل أفضل، وعن تلبية مطالبها في حياة مقبولة، كرامة المواطن فيها محفوظة وحقه في وطنه وبناء مستقبله مؤكد ومضمون.
فعلى امتداد دهر الضياع والفساد، تمّ طمس الهوية الجامعة لأبناء الشعب الواحد، فكيف بهوية الأمة الواحدة!
لقد تمت ضروب من الممارسات بهدف طمس الهوية الجامعة لشعوب هذه المنطقة العربية: جرى تنميه الإقليمية الكيانية التي تنتهي بعدائية مطلقة للعروبة، من نماذجها ما كان يقال ويجري تعميمه من شعارات كيانية تخدم المستعمر والمحتل، كمثل القول: «اصرف فلوسي على ثورة الجزائر؟ ليه؟! أنا عايز أعيش أحسن!».
في المقابل، فإن ممارسات خاطئة، صادرة عن الجهل أو عن نقص في الوعي طالما ترددت خلال فترة الوحدة بين مصر وسوريا في «الجمهورية العربية المتحدة» والتي فرضت على الكثير من القوى المؤمنة بالوحدة (إذا ما استبعدنا الانتهازيين والهاربيــن بمشــاكلهم إلى الغير): «نتعامل مع الوحدة كاستعمار مصري لسوريا أو نخربها بالانفصال… وهكذا نستعيد سوريا ضعيفة بحيث نستطيع حكمها، ونترك عبد الناصر ضعيفاً بحيث يمكن إسقاطه!».
بل إن الهرب من الهوية الجامعة ومسؤوليتها الطبيعية لحق حتى بالقضية المقدسة، فلسطين: «أتريدني أن أحارب من أجل فلسطين وأنا بحاجة إلى الرغيف لإطعام أطفالي؟!».
كذلك تمّ بعث الطائفية (والمذهبية) من رقادها، بعد تهاوي «العلمانية» ـ وقد كانت هشة وطارئة، بعد، لأن الأحزاب القومية العلمانية (من حيث منطلقاتها) تطأفت وهي تسعى إلى السلطة، مستعينة دائماً بالعسكر. صار حزب البعث في العراق «سنياً» بمعنى قوى الــسيطرة، بعيداً عن المبادئ ـ أما في سوريا فقد صار حزب «البعث» «علوياً» في حين ظلت الأحزاب الشيوعية أحزاب أقليات: أكراد، أرمن، مستعربون متمصرون إلخ.
ولقد قامت أنظمة عاتية على قاعدة الكيانية والطائفية تحت الشعار القومي. كذلك فقد أتمت القيادات الحزبية (التي كان العسكر قد استولى على قرارها) السيطرة على السلطة برفع رايات «حزب البعث العربي الاشتراكي»، كما في العراق وسوريا، أو راية حركة «القومييــن العرب، كما في اليمن الجنوبي. والطــريف أن «القوميين العرب» في جنوب اليمن قد تحــولوا ـ فجأة ـ إلى ماركسيين لينينيين عندما حوصروا (من الداخل والخارج) فلم يجدوا الحماية إلا في الاتحاد السوفياتي.
لقد تلاقت فتحالفت الكيانية والطائفية، وغالباً مع العسكر، تحت الشعار القومي. وهكذا فقد لعب العسكر دوراً أساسياً في تخريب اللعبة السياسية وضرب التجربة الديموقراطية النامية، والتي كان يحتضنها ويتاجر بها ـ كشعار ـ الإقطاع السياسي، جديده والقديم. وسقطت العروبة ضحية القوى الطامحة إلى السلطة جميعاً، والتي طالما رفعت شعاراتها كطريق للوصول.
لقد ضربت «سنّية» البعث في العراق، العروبة، بقدر ما ضربتها «علوية» البعث في سوريا، و «شافعية» الماركسية في جنوب اليمن.
أما في مصر، فكانت الماركسية أضعف من أن تؤثر في الشارع (المؤمن بطبيعته)، خصوصاً وأن المؤسسين وأوائل من اعتنقها من الأجانب أو من الأقليات وليس من الكثرة الغالبة بين المصريين.
إن «الميدان» الذي أٌخرج ـ بالتحايل ـ من موقع القرار، يحتاج ـ بقواه الفاعلة ـ إلى مراجعة جدية وشاملة، تتناول أساليب النضال وآلياته.
(…)
ومن المفجع أن تسقط الانتفاضات أو مشاريع انتفاضــات التغيــير فــي المـشـرق العربي (العراق، سوريا، اليمن) في فخ الطائفية التي هي استثمار عظيم لأعداء الانتفاضات والتغيير نحو الأفضل.
ولعل بين الدروس المستفادة من تجارب انتفاضات الشعوب أن «الانترنت» ـ بمختلف تنوعات وسائل التواصل ـ لا يصنع ثورة، إنه قد يظهّر فيؤكد حالة الغضب ويربط – نظرياً ـ بين أطرافها. لكنه لا يمكن أن يكون قيادة الثورة، ولا هو مؤهل لتجميع جماهيرها خلف شعارات موحدة ودفعها على مواجهة الرصاص، في مختلف مواقع المتعاملين عبر أجهزة التواصل.
قد تلتقي جموع غفيرة على رفض القائم بالأمر، لكنها لا تملك تصوراً موحداً للمستقبل: ماذا عن اليوم الأول بعد إسقاط الطغيان؟
إن المنتفضين بالملايين عدداً، لكن أهدافهم شتى. كلهم يريد التغيير، لكن أكثرهم لا يعرفون الطريق، والوسائل، وأسباب التنظيم والضبط والربط وإدارة «العملية».
ليست مصادفة أن معظم إن لم يكن «كل» عمليات التغير في الوطن العربي، مشرقاً ومغرباً، قد تولاها، أو سيطر عليها فقادها الجيش (وغالباً من خارج قيادته الرسمية)، ليس لأنه «خزان الثورة» بل لأنه «الحزب» الوحيد بقيادة محددة، وأجهزة اتصال وتواصل، ثمّ إنه يعتمد «الضبط والربط» بين مختلف وحداته ومهما تباعدت مواقع انتشارها.
إن التغيير حتمي.
ولكن، المؤسف أن العرب يتبدون الآن متباعدين إلى حد التخاصم، مقتتلين إلى حد الحرب، ولقد ضيعوا يومهم بالتأكيد، وهم في صدد إضاعة الطريق إلى مستقبلهم إلا إذا «استيقظوا وتنبهوا» مرة أخرى.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 20 كانون الثاني 2016