تضعني الكتابة عن طلال سلمان أمام امتحان صعب لطالما حاذرت أن أقع في مطباته، لا بسبب شحٌّ في العاطفة والود، بل خشية من أن يحول فائض العاطفة بيني وبين رؤية “موضوعية” لأحد أكثر الأشخاص اتصالاً بالقلب والنفس من جهة، وأحد أكثر القامات الإعلامية تعبيراً عن وجه لبنان النقي والنضر والمنتصر على آلامه وعثراته، من جهة أخرى. صحيح أن السنوات القليلة التي تفصل بين عمرينا لا تسمح لي بالتحدث عن المراحل التي سبقت تأسيس “السفير”، حيث كان على طلال الطفل والمراهق أن يقلّب الفقر على وجوهه وأن يتنقل مع أبيه الدركي في مختلف أصقاع لبنان ومخافره النائية، وكان على طلال الشاب أن ينقّل قلمه النضر والسيال بين صفحات “الصياد” و”الأحد” وغيرهما من المنابر، ولكنَّ الصحيح أيضاً أنني منذ أربعين عاماً لا أكاد أعرف صباحاً خالياً من افتتاحيات طلال، أو شمساً لم يمهرها بتوقيع قلمه المضيء، أو إمرأة يانعة لم يحثَّ جمالها على التفتح، أو حرباً لم تصبه شظاياها، أو شهيداً لم تضفره كلماته بإكليل من التنهدات.
لم تؤرِّخ “السفير” بهذا المعنى لحقبة سياسية تغطي الربع الأخير من القرن الفائت وبداية القرن الذي يليه فحسب، بل أرَّخت لمصائر وحيوات وأحلام فردية وجماعية، ولرهانات وطن كامل على تجديد وعوده مع المستقبل. ولم تكن الجريدة بهذا المعنى مجرد ضربة فرد طائشة رماها طلال سلمان على رقعة طموحه الشخصي، بل كانت تتويجاً بالحبر السائل لذلك الغليان الذي ظل يعمل عقوداً في صدر الوطن والأمة، ومنصَّة مفتوحة للآمال المطعونة بحراب الأقتتال الأهلي، وللصباحات المعقودة على حلم التغيير المجهض. فعلى بُعْدِ سبع سنوات لا أكثر من هزيمة حزيران، وعلى مرمى حجر من أيلول الأسود، وتظاهرات الطلاب الصاخبة، ودخول المقاومة الفلسطينية إلى لبنان، وتأسيس الحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط، كان لا بد من أن يتلقف شخص ما حاجة المرحلة إلى منبر قومي، يساري النبرة والتطلع، يجمع إليه شتات النخب السياسية والفكرية والثقافية العربية وينقل صوتها من الشارع إلى النص المكتوب، وكان ذلك الشخص هو طلال سلمان.
على أن “السفير” لم تكن لتبلغ الشأن الذي بلغته لو لم تخترق السطوح السياسية والدعوية للواقعين اللبناني والعربي، ولو لم يدرك طلال ببصيرته النافذة أن المنبر الذي أسسه، مع ثلَّة من رفاقه الطليعيين، ينبغي أن يتحول إلى مختبر حقيقي للأفكار المتصارعة والثقافة المستنيرة، ولكل المخاضات الباحثة عن ولادتها في كنف التنوع والمغايرة والهواء النقي. هكذا بدت الجريدة رجعاً ناصع الإرتدادات للزمن العربي الجميل، والمتصل بصوت فيروز وألق المسرح الرحباني ومهرجانات بعلبك وأغنيات الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وقصائد أدونيس ونزار قباني ومحمود درويش، لا مجرد منبر عابر للرطانة الأهلية وتأتأة السياسيين الجوفاء. أما نحن الشعراء الذين خرجوا من رحم تلك المرحلة فلم يكن من قبيل المصادفة أن نجد في الجريدة الوليدة المنبر والملجأ والملاذ. ولمْ يكن من قبيل المصادفة أيضاً أن تضاف إلى تسمية “شعراء السبعينات” و “شعراء الجنوب” و”شعراء كلية التربية” تسمية رديفة أخرى هي “شعراء السفير”.
ذلك أن معظم ما كتبه جيلنا والجيل اللاحق من شعرٍ كان، وما يزال حتى اليوم، ينشر في الجريدة التي شاء طلال سلمان أن تكرس صفحتها الثقافية وملحقها الثقافي الأسبوعي لكافة الأصوات التي ترهص أقلامها ومخيّلات كتّابها بمعنى لبنان الحقيقي والتعالي عن حضيض الطوائف والمذاهب والغرائز المفلتة من عقالها.
لم أستطرد في الكتابة عن “السفير” بهدف تجنُّب الكتابة عن صاحبها ومؤسسها، بل لأنني أردت أن أسلك الممر الأجباري الذي لا بد من ولوجه للوقوف على سر تلك العاصفة التي تحمل إسماً حركياً مذكراً هو: طلال سلمان. لا أقول العاصفة بالمعنى المجازي للقول، بل بالمعنى الحقيقي الذي يعطي بعض الرجال دون غيرهم طاقة الاندفاع بلا هوادة نحو أفق غير محدود من الجموح والتوثٌّب والصراع مع تنِّين الخيبة والجهالة والقنوط. ذلك أن المرء ليحارُ أمام قدرة ذلك الرجل النحيل، بملامحه الزراعية الملفوحة بشمس البقاع وعينيه المسددتين كعيني الصقر إلى فرائس العالم وجمالاته، على الوقوف ثابتاً ومشدوداً كالقوس فوق أرضٍ شحيحة الصلابة، وبلادٍ لا تكف عن تجديد عقدها مع التشظي والتآكل والانهدام. ومع أيِّ عنقاءٍ تحالف طلال لكي ينجو بجسده من رصاص الغدر، وبجريدته التي مُنعت غير مرة عن الصدور، وبإرادته التي لم تضعف أمام مكيدة أو شحٍّ مادي؟.
لعل السر في طلال كامن في موهبته العالية وذكائه المتوقد وطموحه الذي لا يعرف الحدود. وحيث لا مخيلة غنية بلا مسرح غني للطفولة فإن كاتب “على الطريق” عرف كيف يشحذ طفولته تلك على سكين المكابدة الصلبة وشفرة التراب الجارح. إنها الطفولة المنقسمة بين حجر الركبتين الصلد وغبار الطلع البقاعي الذي يلقِّح الرأس ببذور اللغة وورود النخيل وأمواج الاستعارات التي لا تهدأ. ومن يقرأ افتتاحياته المتعاقبة في “السفير” لا بد من أن يشعر بتلك النداوة المفرطة في تألقها حيث يجري حقن السياسة بأمصال الشعر ويرتفع الكلام عن راهنيته ليعانق الأبديّ والدائم وغير المحدود. ومن يقرأ “هوامشه” الثقافية في الملحق الأسبوعي سيعثر على الجوهر “السلماني” الحقيقي، وعلى الناقد والروائي والشاعر الذي يزيح السياسي إلى الخلف ليتمادى مع المجاز في آباره العميقة.
وعلى لسان “نسمة” الذي يقبع في أخمص زاويته سيتاح لطلال العاشق أن يرتفع بالأنوثة عن منسوبها الطبيعي، وأن يثير غيرة الشعراء بما يمتلكه قلمه من عدة “الإغواء” ومستلزمات الوله العاطفي.
لطالما كانت صورة الفارس عند العرب متصلة بالعشق إلى حد التماهي. فنحن وفق أحد الشعراء “قوم تذيبنا الأعين النُّجْل / على أننا نذيب الحديدا”. ونحن، وفق عنترة، نتلمس فوق شفرات السيوف لمعان ثغور النساء اللواتي نحبهن. ذلك لأن شهوة الحياة توقفنا دائماً على الشفير بين بسالة الذود عن الكرامة و الانحلال الكلي في المجرى العذب لأنوثة العالم وجمالاته الوارفة. وما طلال سلمان الكاتب والشاعر والعاشق للمرأة والمفتون بالطرب والتراث الشعبي، إلا التجسيد الحيّ لكل ما تقدَّم.
شوقي بزيع
الطريق، 192013