اجتمعت ظروف في الآونة الأخيرة دفعتني لأتمنى وقوع أكثر من مستحيل تفاديا لكارثة تقترب. الكارثة هي أن تجري الانتخابات الرئاسية الأمريكية في موعدها ويفوز الرئيس دونالد ترمب بولاية ثانية. المستحيلات التي اتمنى وقوعها تبدأ بأن يرفض الرئيس ترشيح الحزب الجمهوري له رئيسا لولاية ثانية وتنتهي بأن تعترف المؤسسات الدستورية الأمريكية بحقي أنا المواطن المصري وملايين غيري من كافة الجنسيات أن نصوت في هذه الانتخابات كما يصوت المواطنون الأمريكيون بعد أن نالنا من نتائج أفعال ترمب ما ناله مواطنون أمريكيون كثر.
***
توقفت مرات عديدة مندهشا من موقف الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ وعديد الجمهوريين في مجلس النواب من كثير من تصرفات الرئيس ترمب. يسكتون حتى صار كذب الرئيس محل سخرية أطفال المدارس والمتدربين من المراهقين على لعبتي كرة القدم والبيسبول في كل أنحاء أمريكا. أي جيل هذا الذي ينشأ الآن في أمريكا ويستعد ليرث السياسة والمبادئ ويدير المؤسسات الدستورية، جيل نشأ مع رئيس يكذب ولا يخفي عنصريته وبخاصة مع الملونين والمسلمين.
استطاع ترمب خلال السنوات الأربع التي قضاها رئيسا أن يفرض على قاعدته في الهيئة التشريعية القبول العملي بأن يكون شعار الرئاسة الأمريكية في عهده “أنا وقاعدتي أولا” وليس أمريكا أولا. لم تكن أمريكا اعتباره الأول عندما طلب من الرئيس الأوكراني حديث العهد بوظيفته التدخل لإجراء تحقيق يمس سمعة السناتور بايدين، المرشح المحتمل لمنافسته بعد سنوات أربع على منصب الرئاسة. لم تكن أمريكا في اعتباره عندما هدد مساعديه في البيت الأبيض والحكومة بالفصل والملاحقة إن ساعدوا المحقق موللر المكلف بتقرير عن أخطاء وتجاوزات الرئيس خلال العامين الأوليين من الحكم.
أذكر أثناء الحملة الانتخابية التي جاءت بدونالد ترامب مرشحا أنني وآخرين لم نهتم الاهتمام الواجب في أوجه قصور ترمب. مال الظن عندنا إلى فكرة بين أفكار كثيرة استطاعت الثقافة الأمريكية أن تحقنا بها ايديولوجيا واقتصاديا عبر عقود كانت أمريكا خلالها المتحدث الأول والأعظم في عالم السياسة، وقتها كنا نقاوم وكانت أقوى. اعتقدنا متأثرين بهذه الفكرة أن منظومة القيم الأمريكية سوف تجبر الرئيس المنتخب على الاصطفاف بكل الاحترام وراء هذه المنظومة. لم ننتبه بالقدر الواجب إلى أن منظومة القيم الأمريكية قد أصابها من التوعك والتآكل في العقود الأخيرة ما أصاب منظومات وربما مؤسسات أمريكية أخرى. نعرف مثلا أن من قيم هذه المنظومة، وكان الظن أنها ثابتة ولا تمس، مبدأ حرية التجارة.
ومن القيم أيضا التي افترضنا خطأ استحالة أو صعوبة المساس بها مبدأ قدسية الحريات الشخصية وبخاصة الحقوق والحريات السياسية. ومن القيم كذلك التي كثيرا ما تبناها مفكرو وشباب العالم النامي ضمن حلم بناء دولة مكتملة الأركان مبدأ احترام المؤسسات الدستورية، مثل القضاء والسلطة التشريعية والقانون ودستور البلاد. أعود فأكرر أن الظن راح بنا إلى إنها مبادئ لن تمس.
كان ظنا خائبا لأسباب ثلاثة على الأقل…
أولا.. وقع المساس بكل القيم تقريبا ولم يصدر عن الجوانب المسئولة عن حماية عقيدة الأمة ودستورها ومؤسساتها إجراء قوي يمنع الرئيس عن الاستمرار في المساس بمقدسات النظام السياسي الأمريكي. تمادى الرئيس فتأثرت بالسالب علاقات أمريكا بأقرب حلفائها في أوروبا. تراجعت مكانة “المعسكر الغربي”. نحن المحللون تجاوزنا الحدود ورحنا نسأل عن مصير الحضارة الغربية في ضوء استمرار انطفاء أضوائها ضوءً بعد ضوء. نسأل أيضا عن مصيرها مع تعدد احتمالات صعود قيم غير غربية، وقيم قد لا تنسب نفسها لتراث الرجل الأبيض فتفاخر بتراثها المختلف. تخلفت التجارة الدولية وتأثر الاقتصاد العالمي وتعرضت الرأسمالية بتحديثاتها المبتكرة لحملات انتقاد شنها مفكرون كبار محسوبون على هذه العقيدة.
ثانيا.. شنت الطبيعة حربا لا هوادة فيها كشفت عن أشياء لم يتوقعها بشر في مواقع الحكم أو خارجه. المثير في الأمر، بين أمور كثيرة لا تقل إثارة، أن الولايات المتحدة نفسها تعرضت لدرجة قصوى من الخسائر البشرية والمادية وكذلك السياسية. لا يخفى أن الرئيس ترمب، عملا بشعار أنا أولا، يتحمل قسطا كبيرا من المسئولية. أراد أن يكافح الفيروس المهاجم وعينه على نوفمبر القادم شهر انتخابات التجديد وليس على شعبه المهدد أو على الفيروس العنيد. ما نعرفه عن ترمب يجعلنا نعتقد أنه لن يدع كارثة ولو بهذا الحجم تشغله فتحرمه من أن يعود رئيسا للجمهورية. نعرف أيضا، وأظن أن ترمب يعرف، أن الفيروس لن يترك أمريكا على حال كانت عليه عندما بدأ يشن حربه عليها. لن يترك مؤسسة قائمة أو عقيدة راسخة أو نخبة سياسية تتحكم بعد أن انكشف عجزها وتقصيرها.
ثالثا.. ليس غائبا عن دونالد ترمب أن مثله الأعلى بين حكام العالم يوشك أن يحقق اليوم أعز أحلامه، الذي هو حلم معظم حكام العالم في الشرق كما في الغرب. هناك في موسكو يحتفل الرئيس فلاديمير بوتين ساعة كتابة هذه السطور بحصوله على أصوات غالبية الناخبين الروس الذين صوتوا ليبقى بوتين رئيسا لدورتين إضافيتين. هاتان الدورتان يضمنان للرئيس أن يحتفظ بمنصب الرئاسة حتى نهاية العمر تقريبا، وإذا طال العمر وامتد إلى ما بعد الدورتين فلن يكون صعبا تعديل مادة في الدستور فيصبح من واجب السيد فلاديمير أن يشرف على الدولة من موقع شرفي. موقع فوق المؤسسات. اتضح أن تحقيق الحلم ليس أمرا مستحيلا. قد يكون أمرا صعبا لو أنه يحدث في وضع لم يمس الدستور فيه إلا نادرا أو في وضع أحاطه المؤسسون بضمانات وحصانة رادعة. المؤكد أن الدستور الأمريكي بمعناه الواسع جرى المساس به في أكثر من موقع وممارسة خلال عهد الرئيس ترمب وبشكل لم يحدث من قبل. الأهم أن الرئيس استطاع أن يهز قدسية المؤسسة الدستورية الأمريكية. بمعنى آخر جعلها أكثر قابلية للمساس بأجزاء متفرقة فيها. أتخيل أن ترمب بحكم شخصيته ودعم جماعات مصالح بعينها لن يكتفي بالأجزاء. قد يجد فرصة العمر سانحة فيمس الدستور في كلياته. يمكن لهذا أن يحدث إذا نشبت في البلاد فوضى بسبب الصراع العنصري أو نشوب حرب أيديولوجية تحت عناوين اليمين واليسار، وفي حال ازدادت المطالبة بإعادة كتابة تاريخ الولايات المتحدة لصالح العبيد أو لصالح جنرالات الكونفدرالية وتجار الرقيق.
أتابع ترمب وبوتين. ما يفعلانه يذكرني بكتاب تقرر علينا ونحن طلبة. كتبه شابان بدا يتألقان بين علماء السياسة هما “زبنيو برجنسكي” و”صمويل هنتجتون”. حاول الشابان المجتهدان أن يثبتا في الكتاب استحالة أن يتطور النظامان السوفيتي والأمريكي في اتجاه التطابق أو التشابه. اعتقد أن جهة ما في موسكو وجهة أخرى في واشنطون صارتا تفكران بغير قصد كما كان يفكر مؤلفا الكتاب قبل خمسين عاما أو أكثر. هما أيضا يرفضان أن يتطور النظامان إلى اعتناق أيديولوجية واحدة وتطبيق سلوكيات متشابهة. في رأيي الشخصي تزداد الممارسات المتشابهة عددا وعمقا.
***
ليس من قبيل المبالغة وليس بدافع إثارة القلق والفزع أن أستمر في التعبير عن اقتناعي بأن أمريكا ستكون في خطر ومعها الغرب لو أديرت الانتخابات القادمة بشكل سيء.