انفرط عقد اللبنانيين، أو يكاد ينفرط، بأفضال قياداتهم السياسية المخلدة وتناحرهم في ما بينهم لأسباب تخص زعاماتهم «التاريخية منها أو المستحدَثة»، وجميعها مَدين بوجوده واستمرار تأثيره للخطاب الطائفي والمذهبي الذي يملأ على الرعايا الهواء حتى حدود الاختناق.
ليس بين الزعماء، ومعظمهم من المخلدين، من يهتم فعلاً بهؤلاء الرعايا وحالة الضنك والضياع التي يعيشونها في وطنهم الذي أحبوه وأعطوه عصارة جهدهم انتاجاً، وكفاءة لم تتسع لها دولتهم بنظامها الفريد ولّادة الطائفية والمذهبية لتركبه الزعامات الآتية من اتون الحرب الأهلية الحريصة على استمرار مناخها باعتباره ضمانة وجودهم في مواقع القيادة وثباتهم فيها بغير منافس.. وللثبات شروط محددة أبسطها إنعاش المناخ الطوائفي والنفخ فيه كلما هددته احتمالات التطور وخروج الشعب من الدائرة المغلقة التي استُرهِن فيها حتى يأكله اليأس فيرحل أو ينطوي على نفسه ويجتر ذكرياته عن «الشارع» الذي كان مفتوحاً فأقفل بالأمر، وعن النخب التي كانت بشارة بالغد الأفضل ففرض عليها الخيار المر: الصمت مقابل قبولها بالنظام بشروط مغرية ولكنها تلغيها، أو اختيار المنفى لتبيع كفاءاتها للخارج.. وترتاح من النضال وحلم التغيير!
ممنوع التغيير إلا إلى الأسوأ..
الزعامات التي استنبتها، في الغالب الأعم، المناخ الطوائفي الآخذ إلى الفتنة، لا تتعب من تصنيع أسباب الشقاق وتحويل الاختلاف السياسي إلى مشروع خطر جدي يستهدف الكيان بنظامه القائم على أسس مانعة لوحدة الشعب وقاتلة لأي مشروع يهدف إلى تحويل «الكيان» إلى «وطن» يتساوى فيه أهله بوصفهم مواطنين لا رعايا لطوائفهم وبالتالي لقياداتهم الطائفية..
صار لبنان «متعدداً» تمتنع على أهله أسباب التوحد باعتبارهم شعباً واحداً، صغيراً عديده، لكنه يتميز بالكفاءة علما وخبرة واجتهاداً بحيث تنهال العروض على شبابه من دنيا العرب كما من دول الخارج حيث أنهى دراساته العليا متفوقاً ثم لم يجد في بلاده من يحترم علمه وكفاءته إلا إذا عاد إلى الانخراط في الطائفة والجهر بموالاة زعيمها المخلد وانتظر عند بابه حتى يتكرم عليه بلفتة تحمله إلى موقع يليق بمَن أوصى به واعتمده وليس بشهاداته أو وجوه كفاءته وسنوات خبرته..
ممنوع تحويل الكيان إلى وطن، وتحويل رعايا الطوائف إلى شعب واحد موحد قادر على بناء الغد الأفضل بكفاءاته العلمية وخبراته العملية.
… ويفاخر زعماء الطوائف الذين صادروا العمل السياسي واحتكروا المناصب فوزعوها على أزلامهم كغنائم حرب، بأنهم قد نجحوا في ضرب وحدة الشعب واحتكار الدولة، بالمناصب السامية فيها لأزلامهم، وشطبوا الحياة الحزبية والنقابات عموماً، عمالية وطالبية، والمنتديات الفكرية والثقافية، ليسود خطابهم التقسيمي بجذوره الطائفية.
مَن الذي استولد مجلس نيابي بقانون جهيض ومشوه أصلاً بزيادة الجرعة الطائفية فيه بتقسيم الشعب المقسم ويعمل لاستيلاد مجلس جديد يثبت الانقسام على قواعد طائفية ومذهبية ويلغي أي احتمال لتوحيد الشعب وتمكينه من التعبير عن رأيه واختيار مجلسه النيابي ومن ثم رئيس البلاد، وبالاستطراد الحكومة، بمَن يمثله حقاً ويعمل مخلصاً لحماية وحدة هذا الشعب وبناء الدولة القادرة بأبناء الوطن المؤهلين والذين يبيعون كفاءتهم للخارج أو يهاجرون بها إلى دول ترحب بكفاءاتهم وخبراتهم؟!
الحكم غنيمة للأعتى في طائفيته والذي يباهي باستقطابه «شعبه» أي أبناء طائفته بخطاب طائفي تقسيمي… وبالتالي فالزعامات والقيادات تدين بشعبيتها لجمهور حرصت على استقطابه بخطاب طائفي تقسيمي بالضرورة يلغي احتمال تحويل الكيان إلى دولة لكل مواطنيها.
والفراغ في مؤسسات الدولة، رئاسة ومجلساً نيابياً وحكومة مشلولة، استثمار مجز للزعامات الطوائفية، كلما امتد زمنا أطول ساعد في تكريس قيادات الطوائف زعامات في المستقبل أيضاً، ودائماً على حساب الوطن…
عشتم وعاشت المزرعة الطوائفية النموذجية المعروفة باسم وطن الأرز.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 29 أيلول 2016