أخيراً، حدثت المعجزة: من دون سابق انذار، تخطى اللبنانيون الحواجز الشائكة المانعة للتلاقي في ما بينهم، واجتمعوا على رفض واقعهم المزري وكل المتسببين فيه..
فجأة تحرر اللبنانيون من طائفيتهم ومذهبيتهم وانتبهوا إلى ما يجمعهم من هموم مضنية ومن أثقال منهكة تنغص عليهم حياتهم وتحرمهم النوم وتجعلهم يهومون في صحارى قلقهم على مستقبل ابنائهم المهدد، جدياً بالضياع.
سئم اللبنانيون من اعداد اجيالهم الجديدة لبناء بلاد الآخرين. سئموا من حملهم بسياراتهم إلى المطار، ووداعهم بالقبلات والدموع ومعهم احلامهم بالغد الافضل في بلادهم التي سقوها وانبتوا زرعها وشجرها وبنوا بيوتهم لتثبيت ابناءهم فيها.
انتبهوا إلى أن السياسة تُفسد حياتهم. لم يعد كافياً أن يتندروا بالصفقات التي يعقدها “الكبار” فتأكل ابناءهم والمستقبل. باتوا يملون من استذكار الفضائح التي ترتكبها الطبقة الحاكمة والمتحكمة والمحصنة بالطائفية والمذهبية بحيث تستحيل المحاسبة، خصوصا إذا كان المنتقد او المعترض من طائفة أخرى.
كل من حولك فاسد. كل ما حولك فساد، وكلما علا الموقع (نيابة، وزارة، رئاسة مجلس وحكومة وصولاً إلى صاحب الفخامة!) تعاظمت القيود على الكلام، وتعاظمت هيبة الحصانة فيصير كشف الخطأ جريمة وفضح الخطايا كارثة وطنية، وادانة المرتكبين واللصوص وناهبي الثروة الوطنية خروج على الوحدة الوطنية..
نسي المواطن حقوقه وواجباته. تحول بضغط الحاجة إلى الوظيفة والخبز إلى مأجور يدين بالفضل لمن وظفه ولو برتبة حاجب وجعله يدوس على شهاداته ومستقبل اولاده لكي يوفر لهم الخبز وما تيسر من العلم.
أقفلوا المدرسة الرسمية، وخربوا الجامعة الوطنية، وأهملوا المستشفيات الحكومية فجعلوا المواطن عبداً “للزعيم” الذي لا بد سيحتاجه كل لحظة، لتعليم ابنائه وتطبيبهم.. وتأمين مستقبلهم في “الخارج”، لأنهم “طارئون” على الوطن، لا هم أهَله ولا هو بلادهم.