لا نعرف أصل وباء الكورونا. هناك عدة نظريات حول الأصل: هل هو تلقائي في الحيوان أو النبات أو الإنسان، أم جاء بمؤامرة بشرية في مكان من العالم؟ أصحاب النظريات يحبون اتهام الصين، وأن الوباء جاء منها. مصدر الوباء والشر هو الشرق. الغرب مصدر الخير. ما يهمنا هو المعرفة بأن هذا الوباء غير الرأسمال المالي الكبير وشركات الأدوية الكبرى وأخواتها، وله مهام سياسية في خدمة الاستبداد.
أما المهام السياسية فهي تتلخّص في كم الأفواه (وكأن الحياة سجن كبير)، والتباعد الاجتماعي (وكأن الروابط الإنسانية تتفكك). الأهم من ذلك هو التعمية حول هذا الفيروس. فما من أحد يعرف حقيقته (الحقيقة الموضوعية). إلا أنه فيروس يتحوّل حسب استجابات لحواضر لا نعرفها، ولا نعرف أين هي المنطقة التالية التي سوف يضرب فيها، ولا مدة الانتشار؛ فكأنه مطلوب من البشر الهلع من بعضهم البعض. مجرد التوقّع لوقوعه كفيل بأن يؤدي الى الهلع، ثم التدافع، ثم الانعزال، وصراخ المستشفيات والفرق الطبية، وشركات التجهيزات الطبية، وشركات التأمين. أصحاب مصانع الكمامات يصيبون نتائج جيدة، وكذلك مخابر فحوصات الكورونا. نشأت صناعة كاملة حول الكورونا. الاقتطاعات المالية للقطاعين الخاص والعام كثيرة. الطبقات العليا تعرف صيانة أنفسها طبيا وسكناً في بيوت معزولة (أبنية شاهقة أو فيلات ذات أسوار لا يدخلها إلا أصحابها).
الجدل في مختلف بلدان العالم معظمه سياسي يتعلق بالحرية الشخصية والاعتداء عليها، وتدخل الدولة فيها. عدد من لا يريدون التطعيم كبير. لا يثق الناس بالنظام ولا بما يعلنه حول الوباء واتجاهات انتشاره. وهناك من يشكك في حقيقة وجوده، وهل هو مجرد انفلونزا، أو ما يشبهها. الشك بأرقام الإصابات كبير، وبأرقام الوفيات أكبر. في البلدان ذات المجتمعات المفتوحة والرقابة الاجتماعية على السلطات، الأرقام كبيرة. في بلدان الاستبداد عادة ما يذيعون أرقاما تتناسب ووجهات نظرهم السياسية. يفضلون القول والإيحاء أن كل شيء تحت السيطرة؛ حتى الوباء. تأتي أرقام بلد يُعدّ سكانه بمئات الملايين أقل من بلد ذي بضعة ملايين. الاستبداد يعتقد أنه في بلده يسيطر، بل يقرر، كل ما يجري حتى كمية هطول الأمطار. البشر والطبيعة يخضعون لمشيئة الطاغية. في المجتمعات المفتوحة يستطيع الناس أن ينظموا حركات احتجاج. في البلدان المغلقة هذا ممنوع، تحت طائلة السجن أو غير ذلك؛ على الناس أن يخضعوا لإحصاءات السلطة.
بعض الجماعات الدينية ذات مشكلة أخرى. لا يستطيع الهروب من قدر الله. والإصابة بالكورونا ابتلاء من الله. علينا قبوله مهما كان. هناك حكمة إلهية لا يمكن ولا يجدر الاعتراض عليها؛ هذا وكأنه اعتراض على مشيئة الله.
لا نعرف مشاعر السلطات في جميع البلدان حول مناسبة الكورونا للسياسات المالية الاجتماعية. هو الأكثر إماتة للمسنين؛ والحكومات تتذمر منذ عقود حول تكاثر عدد المسنين والمتقاعدين وحقوقهم في صناديق التقاعد. طبيعة السلطات أنها غالباً ما تسرق هذه الصناديق رغم أنها أشبه بالإيداعات المصرفية. فهي حقوق لأصحابها المسنين كحقوق الملكية الخاصة، لكنها تحت “رعاية” السلطة. حاميها حراميها. قتل المسنين يفيد السلطات. تكاثر عدد البشر في القرن العشرين وما بعده يضايق السلطات، خاصة مع استخدام الإنسان الآلي (الروبوت) مكان البشر الأحياء كيد عاملة. وجود البشر بكثرة يضايق أهل الحل والعقد، إلا في بلدان الاستبداد في شرق آسيا، التي يعمل فيها العمال في مصانع يملكها أهل الثروات من البلدان الغنية. بلدان الاستبداد في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية يؤجرون جحافل سكانهم الفقراء، مثل العبيد، للرأسمال الوافد إليها (الاستثمارات) في سبيل اليد العاملة الرخيصة. عمال هم عبيد في بلادهم. عبيد للاستبداد ولاستثمارات الرأسمال.
يحذر “علماء” الكورونا من التواجد في أمكنة مغلقة مع آخرين. وباء الكورونا يحب الانغلاق. وهناك أوبئة ايديولوجية لديها حساسية ضد المجتمع المفتوح. الانغلاق، بجميع أنواعه، يجر الويلات. الويلات المرضية والأمراض الفكرية. وباء الانغلاق المجتمعي يظهر أحيانا على ألسنة حداثية تخدم ايديولوجيات دينية كما يظهر الكورونا في مختبرات بيولوجية تتمتّع بأحدث التجهيزات. الرأسمالية والامبريالية تنتجان هذا وذاك. على الداعين للثورة أن يكمموا أفواههم ويتناثروا، وأن لا يتظاهروا ولا يصدر عنهم أي احتجاج. عجيب كيف تأتلف الثورة المضادة مع الوباء. هي ذاتها وباء وإن كان دعاتها ليسوا من أصحاب الحجاب أو العمامة. حجاب التعمية يستخدمه علماء الكورونا وأنصار الرأسمالية وشذاذ آفاق اليسار العلماني الذين يخدمون أسياداً رجعيين ومحافظين ايديولوجيا.
أكثر ما يتعلّق بشأن وباء الكورونا أنك لا تعرف من أين، وكم، وما هو، ومتى، وكيف تسلك، إلا بالطاعة لأولي الأمر. طغيان يعكس ديكتاتورية الكورونا. هنا في سبيل الربح وهناك في سبيل السيطرة. الذي يمكن أن يصاب يقع تحت سيطرة الآخرين (الذين يعملون لدى النظام؟). كما غير المصاب الذي عليه أن يكمم فمه ويبتعد عمن يجاوره. رغم تقدم الطب لا يعرف العلماء ماهيته ولا تطوّر متحوراته. عليهم انتظار مصير يقرره غيرهم. مثلث المال والله والكورونا يقرر ذلك لهم. المهم أن الفرد سواء كان مواطناً أو من جملة الرعايا في مجتمع يحكمه استبداد ما، لا يعرف ولا يراد منه أن يعرف. هناك أشياء كثيرة يتعرّض لها الفرد في حياته، كالسيارة مثلاً، ولا يفهمها. لا يفهم آلية عملها. لكن يستطيع أن يقودها ويسوقها. وهناك من يصنعها ويصونها ويصلحها ويفهم آلية عملها. لكنك تختار أن تبتاع سيارة أو تركب سيارة أجرة أو لا تركب السيارة مطلقاً. الكورونا تركبك. تتغلغل في جسدك وروحك. تعرف أنها ليست من طبيعة الأشياء. تفرض عليك نفسها، أو تُفرض عليك. تدخل إليك. تنغرز بالقوة. ليس الوباء من الأمراض التي تصيب كل الناس. هلع يصيب كل الناس أو كل المجتمع. تنظر الى الأرقام فتصاب بالهلع، لما يفترض أن يكون عدد الإصابات كبير. تنظر الى عدد الإصابات المميتة، فكأن الأمر يتعلّق بإنفلونزا تعوّد عليها البشر. فتصاب بالشك. يأتي الشك بعد القلق. يتأسس على القلق. عادة يقود الشك الى القلق. المسألة هنا معكوسة. تساورك الوساوس. أحلام تتحوّل الى كوابيس. تعرف أن سبب الكورونا من صنع الإنسان. لا بدّ وأن هناك مؤامرة. قضوا فترة طويلة في جهود إلغاء نظرية المؤامرة المتعلقة بالرأسمال والامبريالية. تعود المؤامرة الى الأذهان. أنت تتباعد اجتماعياً. تتفكك الروابط الاجتماعية لا بسبب تطوّر مألوف في المسيرة نحو الديمقراطية أو ما يشبهها. بل تساورك الشكوك ممن يجلس بجانبك. يصير هو العدو. ربما كان عدواً افتراضيا عندما لا تصاب منه. لكن تصوّر العدو لا يفارقك. هناك شيء ما يُفرض عليك. ينعكس مسار الحياة البشرية من المزيد من الانفتاح الى المزيد من الانغلاق على الذات. ايديولوجيا جديدة تفوق عنفا كل الايديولوجيات السابقة. كنت تنتظر العنف من اليمين الفاشي، أو الدين السياسي، أو الحرب، محلية كانت أو اقليمية أو عالمية، فإذا العنف يخترق ذاتك فيزيائياً ومعنويا. تتحوّل المدينة الى أشباح. يعود الريف الى عقلك. ليس في هذا الريف رومانسية، بل واقعية كالحة كئيبة. يصيبك ذهان النظافة. ربما تغتسل كل يوم أو يومين أو اسبوع، حسب الامكانيات ومتطلبات التطوّر الاجتماعي. مع هذا الوباء، عليك تطهير يديك كلما لامست شيئاً، أو يداً غريبة. يصير كل شيء غريباً. تصير أنت غريباً حتى في بيتك. الويل لك إذا سعلت أو عطست بحضرة زوجتك أو أولادك أو ضيوفك. تخشى الضيوف. تخشى استقبالهم. وحدة قاتلة. حضورك احتفالا بمناسبة رأس السنة كان العادة وصار اختراقاً للعادة والمعتاد. القوانين التي تُفرض والعادات التي تُعتمد في السلوك اليومي تصير وسيلة لبعثرة المجتمع وتشتيته بعد أن كانت وسائل لانتظام المجتمع. تختفي الطوعية. تزول التلقائية. كل شيء يُدار بالأمر. في الحروب تدار مجتمعات البلدان بما سُمي اقتصاد الأمر. إذن هو وباء الأمر. الصحة بالأمر. تُعاد معاني بالأمر، سواء أصبت أم لم تصب. أنت متطوّع بالحياة بالقسر. لا تعود الحياة معطى طبيعي. تصير كسبا يوفرها لك نظام الحكم. يترك الكثيرون وظائف العمل لأنهم لم يعودوا يطيقون العيش مع الغير، لا لوظيفة أخرى بل للانفراد عن الناس. في البلدان الفقيرة والطبقات الدنيا، أنت مضطر للعمل بجانب الغير. لكنه اضطرار قسري بحكم الحاجة للعمل. توقف العمل عن كونه وسيلة لتحقيق الذات. صار مغامرة تعني في بعض نتائجها فناء النفس وخواء الروح. مع خواء الروح يزول الإيمان. يشتد أمر الطقوس. تصلي للإنقاذ. تكثر الدعوات. أصولية عبادية من نوع جديد. الحياة الجديدة كلها عبادة طقوسية (cult). يعود تفشي الاعتبار أن الحياة لعنة أو إثم نتج عن لعنة. البشر ملعونون أينما ذهبوا. لا يُسمح بالسفر إلا مع بي سي آر (PCR) يزيل اللعنة مؤقتاً الى حين أن تقعد بالطائرة. تعود اللعنة حين تنزل منها. ربما خلال الرحلة تتفاقم اللعنة. ما عاد الإرهاب المعتاد سبباً كافياً لاتخاذ اجراءات قسرية في المطارات ومحطات السفر والموانئ، وكل أمكنة التجمّع، ولا وجود شنطة متروكة. صرت أنت مصدر خوف وهلع إذا لم تتقيّد بالاجراءات المفروضة. صار وجودك الإرهاب بعينه.
تهميش الإنسان هو ما يحدث. وقد كان الاتجاه في السابق عكس ذلك الى أن جاءت النيوليبرالية. كان الإنسان قبل ذلك يناضل لإستعادة مركزية في المجتمع عن طريق النقابات والديمقراطية. مع زوال الاتحاد السوفياتي تحطّم الحلم بذلك. وزال خوف النظام الرأسمالي من الشيوعية. وكرست البلدان الشيوعية سابقا نفسها لرأسمالية فجة. أمسكت الراسمالية الفرصة وعاد اتجاه التهميش للصدارة. ربما كان وباء الكورونا يحقق حلماً رأسمالياً قديماً بإلحاق الإنسان بغيره؛ إلحاقه بالآلة وحاجات الرأسمال. هو الآن ملحق بالكورونا. حياته يعاد صنعها من جديد. أسلوب عيش يتبدّل على أساس متطلبات الكورونا. عفوا، مكافحة الوباء. لا تترك الرأسمالية فرصة إلا وتستغلها. أجهضت مسيرة التحرر البشري. الاتجاه يسير نحو عبودية من نوع جديد.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق