أخطر ما في لبنان على صغر مساحته وعدد سكانه هو الانقسام الثقافي. الأمر يتعدى الطائفية وما تحدثه من اختلافات، والتي تبقى في إطار الصراع السياسي. لكل طائفة أكباشها الذين يتبعهم جمهورهم دون أن يستدعي ذلك عدم اختلافهم مع الطوائف الأخرى، حتى في القرى والبلدات المختلطة.
فشلت مقولة العيش المشترك، ولم يعد لها سوى أصداء مرحلة سابقة دون أثر لها في العيش اليومي، ولم تعد الوحدة السياسية تُعبّر عن رؤى اجتماعية متماثلة أو متشابهة، بل صارت من مخلفات ماضٍ جميل، كما يُسمى، برغم مآسيه. وهي بالفعل جوفاء لا تُعبّر عن تعددية ما، بل انقسام ثقافي، بالأحرى حضاري. فأسلوب العيش بين الحضارتين صار مختلفاً، بحيث يبذل أعضاء كل فريق جهداً متزايداً كي يكون خطابهم مغطياً لانقسام، بالأحرى لفراغ يُعبّر عنه الصديق أحمد الغز بإصطلاح “المجاعة السياسية”.
لم نعد شعباً واحداً ذا تعددية، كما في كل المجتمعات؛ صرنا شعبين بحضارتين تتوازيان وتتجاوران دون امتزاج. ففي أحدهما مهرجان دائم وفي الأخرى جنازة دائمة. يصطنع أصحاب الأولى الفرح ويتباهون به نكاية بأصحاب الحضارة الأخرى الذين يرفعون شعارات وطنية تتعدى حدودها الوطن والدولة. قريتنا مختلطة، لكن الأولاد من هذه الحضارة وتلك لا يلعبون سوية، كما كان الأمر في أيام طفولتنا. قريتي التي فيها سكان من طائفتين، لا اندماج فيها.
ما كان، وما يزال، مضمراً من تباعد طائفي صار ظاهراً في تباعد أسلوبي العيش. صار التواصل بين النخب مقتصراً على جيل قديم، يسمح تناقصه بفعل تقادم العمر، وبفعل تناقص العدد بالوفاة، بظهور أطراف طائفية تُجاهر بطائفيتها وانغلاقها وتتباهى بأسلوب عيشها، وتعتبر إحداهما أن ما تعيشه هو الوحيد الرابط بين الحاضر والزمن الجميل الذي مضى، والذي لم يكن سوى مجرد وهم.
كلما مالت حضارة من الحضارتين باتجاه، ذهبت الأخرى مبالغة بالاتجاه الآخر، علماً بأنه في كل حضارة منهما من هم من أتباع الطوائف المختلفة، وإن بنسب مختلفة.
هو تحوّلٌ يبدو تلقائياً وعابراً وساري المفعول، كما يبدو من التأثيرات السياسية، لكن الخشية أن يتجذّر مُلغياً وحدة البلد المجتمعية ثم الوطنية والسياسية. وقد كثر كلام البعض عن الآخرين بالقول إنهم لا يشبهوننا. التعددية تفترض التشابه برغم الاختلافات والتباينات السياسية والثقافية، لكن الانقسام الحضاري الراهن يؤشر إلى حدوث اتجاهات متباعدة يوماً بعد يوم، بما سوف يؤدي إلى شرخ وطني يستحيل رتقه.
إذا قلنا الثقافة تتعلّق بالوعي وما ينعكس في النفس أو يصدر عنها من شؤون تتعلّق بالأدب والفلسفة والشعر والرؤية السياسية، بل والنظر إلى الذات والهوية، فإن الحضارة هي الممارسة المادية اليومية المتعلّقة بأنماط العيش وما ينعكس في التفكير سياسةً وثقافةً.
التباين الثقافي لم ينعكس تباعداً حضارياً كما هو الحال في هذه الأيام، وهذا شر مستطير. التعددية الثقافية صارت انقساماً حضارياً، ليعود ما هو حضاري مقرراً للوعي والثقافة. الانقسام لم يعد تعددية في إطار مجتمع واحد ودولة واحدة، إذ تحوّل إلى انقسام وطني يتعلّق بالهوية ووحدة الوطن، وربما انعكس ذلك في المستقبل على وحدة الوطن السياسية.
وما بدأ بمحاولة تدمير الدولة، أصبح انقساماً حضارياً، يؤجّجهُ اتجاه الأطراف الداخلية للجوء إلى أطراف خارجية، تُلهم الفرقاء الداخليين فيما يتعلق بسلوكهم وتصرفهم الاجتماعي في الداخل. لم تعد المسألة مجرد انتماء سياسي لهذا المعسكر أو ذاك في الشرق والغرب، بل تحولاً في نمط العيش. فما فشلت السياسة في تحقيقه، يتصدى الانقسام الحضاري لتحقيقه. كثرة المناسبات الدينية لا ينتج عنها التحشيد الديني فقط، بل الحضاري أيضاً. وتعني السياسة مع أخذ الدين بالاعتبار إقامة مجتمع ذو حضارة جديدة منبعها إيران، تلقي باشعاعها على البلدان التي تُهيمن عليها أذرعتها.
ما بدأ ثقافياً وسياسيا تحوّل حضارياً، وما لم تُحقّقه السياسة يُحقّقه الانقسام الحضاري. “شعبان في دولة واحدة” سحب أثره ُأمام فرض نمط العيش الواحد الذي يُكرَّس على الغير بواسطة الإكثار من الطقوس والشعارات السياسية التي تعيدهم من مواطنين (هم الغاية) إلى رعايا (هم الأدوات). طقوس دينية هدفها سياسي (السلطة)، لكنها لا تبالي بالناس أو هي معادية لهم كما في ثورة 2019، التي كان خطرها على النظام الجديد في لبنان أكثر من خطرها على النظام القديم.
إن الرجوع التقهقري وتحويل الناس من مواطنين إلى رعايا يتعارض مع سِير التاريخ الذي لا يستطيع الدين السياسي، كلُ دينٍ سياسيٍ، أن يصمد أمامه. وما يصيب إسرائيل شبيه بذلك، وهذه ظاهرة عامة في العالم.
ليس صعود اليمين الأقصى ظاهرة جانبية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب على الكرة الأرضية؛ هو ليس فقط عودة الدين إلى حقل السياسة، بل غرقه في حُضنها، مما يعني أننا نشهدُ عالماً بعيداً عن الاستقرار والديبلوماسية.
والحديثُ عن عالم يحترق ليس مجازاً؛ ليس عند الرأسمالية ما تُقدّمهُ سوى النيوليبرالية والخصخصة والمزيد من الفقر لغالبية الناس. وكل ذلك ناتج عن خلطة متفجرة بين الدين والسياسة. فصل الدين عن الدنيا لم يعد ممكناً في الزمن الحاضر، ما يؤدي إلى عواصف في أدمغة القادة الجدد، سواء ما كان منهم في إسرائيل أو ايران أو غيرهما. هذه الخلطة هي سبب ما يحدث في البحر الأحمر، وفي إسرائيل، وفي لبنان وفلسطين. الدين وحده شيء، فمجاله المساجد والضمير، أما الدين السياسي، ثم التحوّل الثقافي إلى حضاري، فهما شيء آخر. هو ليس عالم يحترق فقط، بل عالم يصعب السيطرة عليه مع وجود السلاح النووي.
صعود اليمين في العالم، وهو في الوقت تفسه صعود دين سياسي منمّقة ألفاظه بعلمانية اليمين، كسّرّ التاريخ عن طريق جعل الناس رعايا وإبطال التطوّر في سبيل المواطنة. كلُ ذلك يشير إلى مستقبل تتحكم به الطبيعة بالتغيير المناخي لا السياسة التي كادت أن تنتصر قبل أن تنهزم.
التغيير المناخي يؤدي إلى طبيعة هائجة تضرب طوفاناتها هنا وهناك، وتُغيّر مجرى التاريخ البشري. النيوليبرالية جعلت الدولة ضعيفة في كل مكان، وعاجزة عن التصدي لتخريب الطبيعة، في سلوك يُدمنه نظام رأسمالي دون اعتبار للبشرية.
بعد ذلك، يأتينا الذكاء الإصطناعي ليقول للإنسان إن النظام لم يعد بحاجة إليه. فالعقل البشري يقف مذهولاً أمام تطوّر تكنولوجي ليس مآله الخلاص من الدمار والتدمير. مخيلة أرباب التكنولوحيا الديجيتالية تقود الى عالم من دون بشر. الأبوكاليبس الذي صوّرته أفلام قديمة وحديثة ليس فيها البشر إلا أدوات لكائنات روبوتيكية غير بشرية وكائنات من غير هذا العالم، صار قاب قوسين أو أدنى.
نحن نشهد نهاية عالم وبروز آخر تُسيّره مختبرات الذكاء الإصطناعي، الذي يلتقي مع الدين السياسي في مسألة إلغاء البشر.. وما التغيير المناخي إلا ظاهرة تساهم في هذا الاتجاه. لا نستطيع فصل الدين السياسي عن الذكاء الاصطناعي. كلٌ منهما يدين لإله مختلف، واحد في السماء، والثاني في تراكم الرقميات والخوارزميات بيد قلة تتحكّم بالعالم وتحتقر الإنسان وتعبث بمصيره.
لم نعد في عالم بحاجة إلى اكتشافه بل في عالم نُزمِع صنعه. ويلٌ للعالم إذا صنعه الرأسمالي الذي سوف يوصلنا إلى حيث يفر المرء من أمه وأخيه، بل من أخيه الإنسان في كل مكان.
تذكّر أيها الإنسان أنك إنسان له إرادة يصنعها إله المال وإله التكنولوجيا. فبمجهودهما سيكون الأبوكاليبس، بينما إله السماء لا ندري ما سيكون موقفه بعد أن خاب أمله بما اعتقد أن الإنسان خليفة الله على الأرض.
قال الشاعر عن الجن:
“أتوا ناري فقلت منون أنتم… فقالوا الجنّ قلت: عموا ظلاما
فقلت:
“إلى الطعام فقال منهم… زعيم: نحسد الإنس الطعاما”.