التحرر لا يقود بالضرورة الى الحرية، بل ربما تناقضا، وألغى أولهما الآخر. التحرر هو ما يعني في اللغة الدارجة التحرر الوطني، أي تحرر المجتمع أو البلد من الاستعمار الكولونيالي، وتحقق حرية البلد والمجتمع من الاستعمار المباشر.
التحرر هو ليس تحرر الفرد من كل القيود. وليس تحرر الفرد من القمع، بل ربما ازداد القمع في أيام التحرر من الكولونيالية أو الاستعمار المباشر، وليس معناه أن يحرز البلد استقلاله الشكلي، بل الاستقلال الكامل الناجز؛ لكن لا شيء يمنع من استمرار نوع من الخضوع السياسي للبلد الذي كان مستعمِراً سابقاً، وغالباً ما يحدث ذلك باسم “علاقات تاريخية”. هي علاقات على كل حال كانت مسمومة بسبب الاحتلال، وتبقى مسمومة بعد الاستقلال، مع زينة هي الاستقلال وشعارات الكرامة والنشيد الوطني والعلم الوطني والعملة الوطنية.
أحياناً كثيرة تستمر النخبة الحاكمة الجديدة في التحدّث بلغة المستعمِر السابق، وغالباً ما يسكن قادة الاستقلال في القصور التي كان يسكنها مفوضو الاستعمار سابقاً ويمارسون العادات السابقة المعروفة بالاستعلاء على شعوبهم. الاستعمار السابق كان يُمنّن هذه الشعوب المسحوقة بأنه رسالة تمدينية، فمن حقه أن يسود، وأن يُعلّم، وأن يُمارس رسالته الإنسانية في تحضير (نقل الحضارة إلى) الشعوب المغلوبة.
أما زعماء الدول المستقلة حديثاً، الذين أحرزوا “النصر” على الإحتلال، وطردوا فلول الاستعمار، فهم أصحاب رسالة أيضاً. هي رسالة التحديث ونقل شعوبهم المبتلاة بالفقر والجهل والمرض إلى مرحلة جديدة، حيث يتشابهون مع المستعمرين السابقين. الاحتلال السابق ساده رجال بيض، والتحرر من الاستعمار في ظل حكم الاستعمار مهمته أن يجعل المستعمرين سابقاً يشبهون سادتهم القدماء البيض البشرة، ليس في ثقافتهم بل في الخضوع لهم. ثقافة الرجل الأبيض منبوذة، وسياسة الرجل الأبيض مرغوبة للحفاظ على الاستقلال. الاستقلال يتحقق بالسادة الجدد. وهو حمل إلى شعبه تحرراً ناضل من أجله. ومن قاد هذا النضال يحق له أن يحكم، ومن حَكَمَ يحق له أن يستفرد. إذ أن الاستقلال يتعرّض لمؤامرات من الخارج. المؤامرة دائماً حاضرة سواء كانت حقيقية أو مفتعلة. افتعلها حاكم الاستقلال أو حاكم الاستعمار المنبوذ، المهم أن تبقى المؤامرة وأن تكون دائمة، وأن تكون أداة ماضية لنفي أو سجن كل معارض بتهمة التعامل مع الخارج، أو مجرد إهانة الشعور الوطني أو القومي. حكام الاستقلال يسكنون في قصور حكام الاستعمار الكولونيالي، ويطبقون أساليبهم. هؤلاء لحماية شعبهم من المؤامرات الخارجية وأولئك من أجل تمدين هذه الشعوب المعتبرة لدى الطرفين محتاجة الى الحماية من عجزها تارة عن مواجهة المؤامرات الخارجية، وتارة من قصورها عن استيعاب الثقافة الوافدة. وقد وفد الاستعمار، بنظر أصحابه، عن نفاق أو عن جدية لدى البعض وهم أقلية، حاملاً مهمة زرع الحضارة والتمدّن لدى الشعوب المغلوبة. معظم الشعوب المغلوبة لديها حضارات ممتدة على مدى آلاف السنين. هؤلاء أعرق من شعوب أوروبا الغربية المستعمِرة بتاريخ طويل من الأناقة، والفن، والشعر، والتهذيب، والأعراف، والتقاليد، ومع ذلك يحتاجون إلى مدنية الغرب الذي وحده يمتلك المدنية المناسبة، أو بالأحرى نزع مدنية الشعوب المغلوبة دون أن يحل محلها إلا وحشية الغرب أو آثار هذه الوحشية في الفتنة والحرب الأهلية والدمار والخراب.
في السياسة الجيوبيوليتية لا شيء يمنع أن يعادي حكّام الاستقلال الجدد الاستعمار القديم لمؤامرات تحاك. وهذا من حقهم أو لأن أقنية فتحت باتجاه قوى كبرى أخرى. لكن من غير المقبول، أو غير المفهوم، إذا أحسنوا النية، أن يكون العداء للغرب ثقافياً. هناك خوف دائم من الغزو الثقافي. فكأن التعليم ليس مطلوباً، وليس مرغوباً الأخذ من الغرب قواعد العلم الحديث التي وحدها تتيح لنا أسباب القوة. الأنكى أن قصور الحكّام الجدد، حكّام الاستقلال، ملأى بمنتجات الترف الغربي، بينما المؤسسات التربوية والبيروقراطية خالية من العِلم الحديث، عِلم الغرب. وهو ثقافة العالم. عداء ثقافي مقرون بعلاقات أخوة سياسية. ما من بلد مستعمِر إلا وأشار إلى البلد المستعمَر سابقاً بأن له معه علاقات تاريخية. جاء الغرب يحتل بلادنا باسم التمدين ونقل ثقافة الغرب. لكنه كان كاذباً ممانعاً في نقل الثقافة الغربية وعلومها. وكان منافقاً في إنشاء علاقات سياسية. وإدعى أنها لأسباب تمدينية، وهي في حقيقة الأمر علاقات هادفة لبسط سيادة الغرب وتسلطه مع ما يترافق ذلك من مختلف أشكال القمع، والسجن، والتعذيب، والقتل، والإبادة، لمن يخالف سلطة الغرب السياسية وأوامر سادته.
نعرف أن لشعوبنا حضارات قديمة، تسمى عريقة، وكل شعب يتساوى مع الشعوب الأخرى في العراقة. لكن غير المفهوم، بل غير المقبول، هو افتراض العداء الثقافي للغرب مع تعاون سياسي كامل معه. يبدو الأمر غريباً. يعتبر حكّام مرحلة ما بعد الاستقلال، أو التحرر الوطني، أنهم هم وحدهم من يضاهي الغرب في ثقافته، وبالتالي فإن التعامل السياسي مع الغرب مبرر. وفي نفس الوقت يفترضون أن الغرب شغله الشاغل هو التواطؤ والتآمر على حكامنا الجدد، باسم حماية شعوبنا من المؤامرات. فرض الحكام الجدد حالة الطوارئ أو ما يشابهها وأسّسوا أجهزة مخابرات وقمع، وجعلوا الأمن هاجسهم. ألغوا السياسة والتواصل مع شعوبهم، إذ اقتصر الأمر على أجهزة أمنية وبيروقراطية. حتى هذه الأخيرة حيّدوها جانباً أو أخضعوها للأجهزة الأمنية. وهمشوا الجهاز القضائي الذي صار هيكلاً فارغاً من أي مضمون، وتابعاً وخاضعاً لأوامر السلطة السياسية.