الحكومة محكومة. وزراؤها محكومون. يعوّل عليها قليلاً جداً. مرجعياتها حاكمة، كلمة واحدة أو موقف واحد، كاف لزرع الشقاق بين أعضائها. وهذا ليس جديداً. السلطة الفعلية في مكان، والحكومة في مكان آخر. أوصياؤها يقذون جداً.ممنوع المس بمكانة ومصالح هؤلاء. لذا، لن نتوقع كثيراً كالعادة. قانون السياسة في لبنان يبدأ بالتسليم بالحقوق الطائفية وزعاماتها. والباقي، تصريف أعمال. هل نتشاءم؟ طبعاً. ولا ذرة تفاؤل. الكارثة التي أصابت اللبنانيين، هي من صنع وإنتاج سلطات الأمر الواقع، الموروثة منذ ما قبل المتصرفية. السلطة عندنا لا تنبثق من الشعب. بل أن الشعب والسلطة منبثقان من هذه المواقع ذات المتاريس المذهبية، المحروسة بجحافل الاتباع.
لا جديد إذاً حتى الآن . الجديد القادم هو استدامة الكوارث. لقد ذاق اللبنانيون طعم الإنهيار. معاناتهم فوق الاحتمال. ومع ذلك،فإن المرجعيات المذهبية، حريصة جداً على كل ما تأتي به الحكومة أو ما ستؤول إليه الأمور. تجربة الاصلاحات دليل تام، على تفضيل الاختلاف بديلاً عن الاتفاق.
ولا جديد في ذلك أيضاً غداً.
لماذا؟
السياسة والدين ضدان. إما سياسة وإما دين. اجتماعهما معاً هو عملية إفساد متبادل. الدين يخرب السياسة والسياسة تفتك بالدين. هذا قانون عام ومزمن. عرفته المسيحية وملكياتها، وعرفه الإسلام ، فوراً بعد وفاة محمد. وهكذا، ينشق المجتمع إلى جموع هائمة، تقوده المصالح ولا تقوده الآيات. الدين يفقد صلاحيته الآمرة، وعندها يصبح آلة من آلات السياسة. وهكذا فإن السياسة تستمر من الله.
الجديد، أننا في لبنان، كما في الأقطار العربية، نجمع المستحيلين معاً. جمع الدين مع السياسة، كفر إنساني. تصغير للإنسان. هضم للحقوق. ارتفاع منسوب الضغائن والشحناء والفتن. تعميم الكراهية. تبرئة الانتهازية. الاطاحة بالكيانات. الانفلات من التعقل واتباع العرائز. الدين في الممارسة السياسية لا يشبه النصوص التأسيسية. التاريخ حافل بالخروج المستدام على النص. وهذا ليس حكراً على دين أو مذهب أو طائفة . كلهم ارتكبوا الكبائر باسم الدين، فيما في العمق، المسألة كانت مبنية على مصالح قبلية وعشائرية ومصلحية. حروب الأفرقاء والمذاهب في الدين الواحد، جلبت الويلات للشعوب. أما الحروب بين الأديان، فكانت كوارث مستدامة.
نحن في لبنان، كأننا في عصر الفتن العربية الإسلامية. أو كأننا في حروب الباباوات في أوروبا التي دامت حوالي مئة عام، بين الكاثوليك والبروتستانت. وفي مقارنة سطحية فقط، نجد أن الخريطة العربية ممزقة بين سنة وشيعة، وبين سنة أصوليين وآخرين “مستنيرين”، ويتحالفون مع الأعداء حتى، بهدف هزيمة من يشبههم في الدين ويختلف عنهم في السياسة. ما يحدث في لبنان هو صورة مصغرة لما حدث في السودان، في العراق، في سوريا. وهو صورة مصغرة لما يحدث في اليمن. إلى آخر أطراف الخريطة العربية الإسلامية البائسة.
لنعد إلى لبنان. هو متحف حي للصراعات التي تلبس ثياب الدين، طائفياً ومذهبياً. وهو مرجع خصب لكل الفتن التي حصلت، وما سيحصل يوماً ما… ليت ذلك لا يحصل.
لنمعن في القراءة قليلاً. لبنان راهناً، هو أحد تجليات الصراعات المذهبية. السياسة في لبنان هي ترجمة لصراعات المذهبيات: المسيحي في لبنان، باستثناء العلمانيين منهم، عصبه يمنع انتماءه. فهو اما “وطني حر” واما “قوات لبنانية”، وأما في تنظيم مسيحي ماروني. لا نجد أي اقبال على هذه القوى من الطوائف الأخرى. الشيعي أخو الشيعي. فهو أما “أملي” أو في “حزب الله”. هما مختلفان كثيراً، ولكن شيعيتهما أكثر متانة. يناوران، يختلفان، ثم يلتقيان كجسد واحد برأسين. لا يمنع الاختلاف داخل منظومة الاتفاق بين “أمل” و”حزب الله”، أن يكون الحزب إلى جانب “التيار” ورئيسه، ويضغط على الرئيس السني المكلف، كي يؤلف. فيما رئيس “أمل” في حرب مع حليف حزب الله، أي رئيس الجمهورية. هل يحدث ذلك في غير لبنان. أعوذ بالله وبالسياسة معاً… ولكن ما لا يجوز في العالم الحر الديموقراطي، يجوز في لبنان. مبدأ الشيعي، الشيعية أولاً، ثم الشيعية ثانياً.. ثم يفترقان مؤقتاً ليعودوا إلى الحصن المنيع… سؤال: كيف تبنى دولة مؤلفة من قلاع معلقة. لا مسيحي أو سني أو درزي له طريق إلى هذه القلعة الشيعية برأسين.
الدرزي أخو الدرزي أيضاً. السني أخو السني. الكاثوليكي أخو المسيحي، إلى آخره. لا مسيحياً أو شيعياً أو سنياً مع الدرزي. كل إمارة مستقلة، مسنودة بحليف خارجي. الغرب حليف المسيحيين في الشرق، ولكن من بعيد. السني حليف السعودية والدول الإسلامية. الشيعة حليف لإيران، بحيث تختلط الهوية اللبنانية مع الاحتضان المذهبي الإيراني… إلى آخره
هذه جماعات توالي الخارج، فلا يمكن أن تجتمع.إنها تجمعات متناقضة. بينها ترتفع جدران الكراهية.
بوطن، هو لبنان، لحمته الكراهية. ياويلنا.
الأديان عندنا أوطان. ديني هو وطني. طائفتي هي سياستي. صندوق الاقتراع نفرز المقترعين والمرشحين وفق قانون “أبدي”، أساسه وبنيته طائفية خالصة… لذا، نحن “أوطان” فاشلة، في وطن كسيح، مشلع، موزع، لا جامع بين قواه حتى الآن. تاريخ لبنان، من الاستقلال حتى الآن، يؤكد فشل تجربة “التعايش” و”التآخي”. ولبنان “بجناحيه”، وفشل كجسر عبور بين الشرق والغرب. إنه محطة إقامة، لقوى من الشرق والغرب ومن الجيران العرب والمسلمين.
هكذا تضاءل الإنسان في لبنان. هذه القيم السائدة شوهت الإنسان اللبناني. عرته من إنسانيته.تصوّروا، أنه عدو لكل من لم يعرفه بعد. أعداؤنا يولدون معنا. وللتأكيد، عندما نولد، يسجلوننا في سجل النفوس، وفقاً للخانة المذهبية. أنت طائفي منذ الولادة. وإذا خرجت، فهذا يعني أنك ستكون في العراء. لا حماية لك. لا قانون يحميك. الطائفة هي التي تحمي. أنت خارجها، إذاً أنت من الطفّار.
لنختم إذاً. الذي حصل ويحصل راهناً هو رسم جغرافية للطوائف، بحيث يكون الشيعة معاً في مناطق جغرافية، والسنة في مناطق أخرى، والدروز حيث هم الآن، والمسيحيون حيث هم، مع استعداد لاستقبال الوافدين من كانتونات ذات أغلبية إسلامية (دروز وشيعة وسنة).
إذاً، التحيز الجغرافي يدعنا إلى وداع الوطن. فلا نحلمن بوطن. وطننا الجديد سيكون على شاكلة محميات لقوى خارجية.
اللبنانيون العلمانيون، هم مغتربون ومغرّبون في وطنهم المرتهن.
لا جديد في ما كتبته. إذاً، كم أنت غبي يا أنا. أنت فعلاً صبي. ما زلت تحفر في الماء. والماء يمحوه الماء.