هل هو سوء فهم أو سوء تفاهم؟ الاثنان معاً. اللبنانيون ضحية سوء فهم لمن هم، وسوء التفاهم لما هم. لا بد من الكلام بجرأة. الخوف من الكلام، ظلام وظلم للمجتمع والناس.
هناك سيل من الكلام يروي الغرائز، فتثور وتشتعل الطوائف وتتهيأ للأسوأ. وهناك صمت، خوفاً من تعميق الهوَّة بين “الأخوة الاعداء” في لبنان. هناك حقائق لا تُقال بصوت عالٍ. هناك ما يجب أن يراه اللبناني ويتحسسه، ولكنه يخاف، لأن الحقائق الصارمة، تجرح وتفضح، وها هي الهشاشات الطوباوية ترسم أن الجحيم مقيمٌ هنا.
هذا هو لبنان الضحية امامنا. نحن فيه في قعر الهاوية. لسنا على الحافة ابداً. سقطنا، وها نحن نحفر القعر، بلغتنا الطوائفية، ويا سبحان الله، كلها تشير وتدل وتفصح، أن من هنا الطريق إلى الجحيم. اننا، بسبب هذا الانكشاف المتعاكس، نقترب من حالة العري التام وانعدام اللحمة تمهيداً للاعتراف المبرم: “نحن شعب، بل شعوب لا تطيق ولا تُطاق”.
فلنقترب أكثر. أعترف بملء ارادتي، انني لم اعد أميّز بين طائفي من طائفة أو مذهب، وبين طائفي ومذهبي آخر. عجباً. كم يتشابهون؟ “عدوي الطائفي، يشبهني. يسلك كما أسلك”، ولكن كل في اتجاه، والخلاصة، الامعان في الهاوية، ولقد بلغناها، ولا بعد بعدها.
أعترف ايضاً، أن زعماء الطوائف يعرفون، ولكنهم يمضون، والشواهد كثيرة ومفجعة. فلنقل بصراحة: الزعيم الطائفي لا يُقنع الا جماعته ولا يثير ضده الا جماعة طائفية مناوئة له، في كل شيء تقريباً. يجب أن لا نكتم ما نعرف. هل يقنع الزعيم (او الزعماء) المسيحيون. اشباههم من السنة والشيعة والدروز؟ هل يقنع وليد جنبلاط غير طائفته؟ هل يصدّق المسيحيون، خطب السيد حسن نصرالله ونبيه بري وجنبلاط؟ علينا أن نعترف أيضاً. أن لا جدوى من مخاطبة خطابية للخصوم. لن يتزحزح الشيعي عن تأييده لـ”الثنائي”. لن يتزحزح الدرزي إلا إذا قال سيده، وهو كثير التنقل والرقص السياسي فوق الحبال. لن يحيد السني عن عدائه المتوارث، من قديم التاريخ حتى اللحظة، ولن يجد الا الخندق المناوئ للشيعي ويتمترس فيه. ولن يفهم الشيعي، غضب و “نكران” الآخرين، لاجئاً إلى تفسير العداء، بالمؤامرة الخارجية..
إذاً، كل طائفي معه حق مبرم، أُمليَّ عليه من قائده، ويلتزم بأداء التأييد، انتخاباً وطاعة ونزولاً إلى الشارع، مرة بالقبضات ومراراً بالسلاح.. مفتتحين بذلك، الدفاتر العتيقة. وفي هذه الدفاتر، عناوين الحرب الأهلية الأولى في العام 1958، وفي الحرب الاهلية العظمى، من 1975 إلى 1990، مدشنين الخطوات الأولى، نحو فتنة، على حافة التنفيذ، لولا..
يجب أن تُقال الحقائق بصوت مرتفع جداً. أوجه الشبه بين الجماعات والتكتلات الطائفية كبيرة وكثيرة. تستمد الطوائف قوتها، من دولة تحميها أو تتبناها. طوائف لبنان السياسية، هي لبنانية قليلاً، وخارجية كثيراً. كل الخارج انوجد عنا سابقاً، وهو موجود بكثافة وفعالية وسخاء حيناً.. لكل طائفة موقف معلن، غير سري ابداً، من القوى الاقليمية والدولية. المسيحيون، يجدون في الغرب حماية، ولكنه لا يحميهم كفاية. الغرب بعيد. وهناك بديل عربي عن الغرب. ولقد وجدوه احياناً في دول الخليج او سواها. السنَّة، كانوا دائماً، صوتاً عربياً اسلامياً، وعروبياً قومياً (عبد الناصر) ولكن بلكنة لبنانية. السنّة اليوم خائفون. السند السعودي هجرهم. خطبُ ود قائد مسيحي، كبدل عن ضائع. حيرة السنة لن تطول، سيجدون من ينجدهم.
الدروز على قارعة الاحداث. يمكن أن يكونوا ثواراً تقدميين، ثم حلفاء لأعداء الثورة. احيانا، تشبهوا بكمال جنبلاط، وفي احيان أخرى، في كل واد يهيمون. مع “الوليد”، رقاص الساعة راهناً، لا يجد مناصاً من البحث عن حليف. لبنان لا يُشبع طوائفه سياسياً.. أما الشيعة، فلا اوضح من ذلك، وتحديداً مع “حزب الله”. نشأة هذا الحزب الشيعي الاصولي جداً، كانت بعيد انتصار الدولة الإسلامية الأولى في تاريخ الاسلام في إيران بقيادة الخميني. منذ البدايات الاسلامية، أي مع الخلفاء الراشدين، وبعدها مع سلسلة الدول المدنية، منذ معاوية حتى الخميني، لم ينشئ المسلمون دولة اسلامية. إيران دولة اسلامية تبعاً للمذهب الشيعي. وللصدفة ايضاً، أن أول دولة اسلامية سنية، ولدت منذ شهر تقريباً في أفغانستان.
لنعد إلى لبنان. الطائفة الشيعية أُخضعت تاريخياً ولم يلتفت اليها لبنان كثيراً. أكل السنة حصتهم من الدولة وكانوا مهملين. متروكين. منبوذين. خاضعين.. لكن ذلك لم يدم، اذ تجندت الفئات المتسلحة منهم في احزاب عقائدية وثورية ويسارية لبنانية وفلسطينية. جغرافيتها حتمت عليهم أن يكونوا مقاومين. وهكذا كان. السيرة الشيعية المقاومة، سابقة على “حزب الله”، وانما، لم تكن شيعية السلوك العقائدي. منشأها الشيعي لم يكن حصراً في الممارسات والشعائر، بل في الفكر والمواجهة والقتال، خاصة وان الجنوب، كان ساحة معاناة وحرب ومقاومة في مواجهة الاحتلال ودعماً للمقاومة الفلسطينية. الشيعية الناهضة، كانت تؤمن بالتغيير والديموقراطية وفلسطين.
لم يكن هناك خطأ في المواجهة. احداث لبنان في الحرب الاهلية، اتاحت للقوى المسيحية فرصة الاتكاء على سوريا لمواجهة القوى اللبنانية المتحالفة مع المقاومة الفلسطينية. ذات عقدين، تحول نصف لبنان تقريباً، إلى “دويلة فلسطينية”. وتحولت المناطق المسيحية إلى دويلة مارونية. وانتهى الغزل الكتائبي – السوري ـ بعد استعانة “الجبهة اللبنانية” بسوريا أولاً ـ إلى تبني خيار الاتكال على “اسرائيل”. اجتاح الجيش الاسرائيلي قسماً كبيراً من لبنان، تخللته مجازر صبرا وشاتيلا، وانتهى باحتلال كل بيروت والجبل وانحائه، واخضاع الجميع للسيطرة الكتائبية المسيحية.
الطوائف لا تنام. لم يدم الزمن الاسرائيلي. انسحبت من بيروت، بعدما تكبدت خسائر. وانسحبت من الجبل، بفعل المقاومة المتعددة العناوين والشعارات. ثم.. ثم.. وأقامت حزاماً امنياً. في وقت كانت المقاومة تتنامى وتكبر.. ثم تضاءل فعل افواج المقاومة اللبنانية، في وقت، تعملقت فيه القوة الشيعية، التي ولدت من رحم الثورة الخمينية في إيران. وكان على عاتق الشيعية المقاومة، أن تحرر لبنان من الاحتلال الاسرائيلي الذي استضافته القوى العسكرية المارونية.
الشيعة اليوم في لبنان. هم ابناء تلك السردية. اما الشيعة سياسياً فأمر مختلف. انهم يجلسون على مقاعد سياسية متشابهة. ينتخبون ويُنتَخبون، ويدخلون المجلس النيابي. ومجلس الوزراء، ويحتلون مواقع.. مثلهم مثل الآخرين. ويعقدون اتفاقات ويبرمون مواثيق كطوائف فقط.
من يحفظ للمقاومة تراثها، ويثمن ذلك التراث غير المسبوق من قبل، لا يجب أن يتغافل عن أن السيرة السياسية الداخلية لـ”حزب الله” تشبه في كثير من وجوهها وممارساتها، القوى الطائفية الأخرى. وهذا يؤدي إلى النتيجة التالية: الحزب سياسياً في لبنان، هو قوة داخلية، تشبه سواها، فعلاً وقولاً ومواقف عادية، ولكنها قوة صلبة، في مواجهة أي تدخل سعودي، اميركي، اقليمي، معادٍ للمقاومة ولإيران.. والآخرون، المناوئون لـ”حزب الله” يفعلون ذلك مع حلفائهم، ولو ادى ذلك إلى شرخ عمودي، ينذر بالفتنة. (الشياح وعين الرمانة نموذجاً خطيراً).
أوجه الشبه كثيرة. لا أحد يستطيع أن يدين الآخرين، فيما هو يرسم خطواته، بالاتفاق مع حليفه الخارجي. أليست هذه هي نكبة لبنان؟ او، أليس هذا هو لبنان التاريخي؟ انه ضحية طوائفه المتمادية في علاقاتها مع الخارج دائماً ودائماً وابداً. ولا مرة كان لبنان لبنانياً، بجميع طوائفه. كان غربيّاً كثيراً في بداياته. ثم اميركياً وناصرياً، ثم انعزالياً وفلسطينياً، ثم مدولاً عربياً ودولياً.. ولا يزال في هاويته كمن يُمعن في تأبيد الاحقاد وترجمتها سياسياً، بالرصاص و.. ما تيسر، عبر خطوط التماس.
مشقة الاعتراف، مبررة، بإصابة المرمى. السؤال المركزي هو التالي: هل من حق المقاومة أن تتكئ على إيران؟ إذا كان الجواب نعم، فهل يمنع ذلك عن الآخرين، ولو أدى ذلك إلى كوارث.. لا يوجد فريق طائفي لبناني بلا سند خارجي. قد يُقال أن “التيار الحر” اليوم بلا سند. ولكن زعيمه ميشال عون، لجأ ابان الحرب اللبنانية إلى العراق، كسند في مواجهة التدخل السوري في لبنان. تاريخ علاقات لبنان الخارجية مفهوم وواضح ومبرر، للجميع، وهذه هي الكارثة. اننا ضحايا لبنان الذي تأسس على طوائف متنازعة. لذا، لبنان لا هوية له. هوياته بعدد ولاءات الطوائف للقوى الخارجية.
أكتب هذه الكلمات، من دون أن اصطف داخلياً مع أحد. طبعاً، كعلماني، لا أجد مكاني، لا مع الشيعة ولا مع السنة ولا مع الدروز ولا مع المسيحيين. هناك طلاق تام ومبرم ونهائي، بيني وبين الطوائف السياسية (وليس الطوائف كتراث ديني مجيد). كعلماني وديموقراطي، أستقيل من كل تأييد ودعم لطائفة ما. وأظن، أن كل العلمانيين والديموقراطيين، قد طلقوا طوائفهم نهائياً وهم يبحثون عن فكر للعلمانيين، ولم يجدوه بعد.
ولكن لبنانيتي العلمانية، لا تمنعني من تبني قضية ذات طابع سياسي وانساني. فلسطين ضحية مثالية. لا يمكنني أن احرم كلماتي من أن تكون جملة او نصاً في البناء الثقافي المقاوم. طبعاً، كغيري، لبنان لا يكفيني، بل لا يقنعني أن اكون لبنانياً فقط. بل أنا منتمٍ إلى قضايا. لا يمكن الهروب منها. ولست وحيداً ابداً. الاصحاء من مرضى الطائفية. سبقونا من زمان، وتراثهم يدلنا، على الخراب الطائفي، ويشير بوضوح إلى الحل العلماني الديموقراطي. وليس الحل الدكتاتوري ابداً.
إني اتنفس هواء نقياً في لبنان. عندما تحضر القضايا الانسانية، في المحيط القومي، وفي ارجاء العالم المسكون بالظلم والاستبداد والفقر. فحيث هناك ظلم واستبداد واستكبار واميركا واسرائيل ومن معهما، لا أكون ابداً.
ليس لي الا لغتي وصوتي. لن امنحهما لأي طائفية سياسية في لبنان. هذا حرام عليَّ. إلا أنني أجد متسعاً في رئتي، لهواء صاف يأتي من الخارج. انا في هذا الجانب، لبناني قليلاً وفلسطيني كثيراً وأممي جداً.
ها أنذا اعترفت. فسامحوني على شططي الجميل.