فلنتأمل أحوالنا في لبنان. ولنتأمل أحوال الاقليم. دولاً وأنظمة وشعوباً. إننا في مدار السقوط. الكلمات والكتابات تتحدث عن القيادات والامراء والملوك والرؤساء. قلما نجد كلاماً صريحاً عن الشعوب.
نحن في لبنان، برغم انهياراتنا وقياداتنا، ما زلنا نحظى بحرية الشكوى، وأحياناً نتطاول على الحكام وعلى الطغمة المتحكمة. وأحيانا نهينها. مثل هذا لا يجرؤ عليه أحد في الأنظمة الملكية والأميرية والعسكرية والدكتاتورية والدينية.
نحن في لبنان، لا نجد حلولاً لازدحام الحريات التي تتمتع بها الطوائفيات. لا ننام على حرير. ما بلغناه حتى الآن، لا يشير ابداً الى امكانية تسلق الهاوية. ما زلنا نحفر، و”سبحان الحي الباقي”.
ماذا لو أمعنا النظر في الجسد اللبناني؟ الانسان في لبنان، ما زال يتمتع بحرية الكلام والنطق والغضب والشتم. باستثناء من يعيش في غيتو طائفي او مذهبي او سياسي. اتباع الزعماء يجيدون الحداء وتكرار آيات التعظيم والتأليه والعصمة. المنتسبون إلى احزابهم الطوائفية، ببغاوات. يرددون ما يقوله القادة، على العمياني. عبيد في خدمة اسياد. جباه تشبه النعال. اصوات تتأتئ وتردد ما يرشح من كلام مسنون، كحد السيف. لذا، نحن على حافة فتنة الكلام. والخوف من الانزلاق إلى فتنة السلاح، والتقوقع في غيتوات نهائية.
حالياً، نحن في لبنان نعيش مرحلة اكتمال نصاب الغيتوات الطائفية. تأملوا الجغرافيا اللبنانية. جمهوريات قيد الانجاز: مارونياً، شيعياً، سنياً، درزياً.. والمذلة للأقليات المقيمة في كانتونات الاكثرية.
خارج هذه الغيتوات المجهزة جيداً، تتسكع اقليات نقية جداً. ترفض الالتحاق بأصولها الدينية والطائفية. تطهرت من آثار العنصرية والأرومات العائلية والسلالات العشائرية. هؤلاء ضحايا نظام التمييز الطائفي. نُبِذوا من طوائفهم. باتوا طُفّاراً، بلا مأوى سياسي. الاحزاب وهنت. لا مكان فيها لهؤلاء. الاندية فرغت. لا صوت يعلو ابداً. قمر السابع عشر من تشرين أفل بسرعة. توزعته الماكينات الحزبية الطائفية المرصوصة البنيان. انقضت على جسد غض، جميل، طموح، بريء، طيب، متواضع، حالم، صالح، بهي، يشرِّف النظر اليه، كوعد مستقبلي… انقض سدنة الهيكل على جسد الحرية في 17 تشرين. شلَّعوه. خوَّنوه. اتهموه بما ليس فيه. تعمدوا صيد الجميع، الجميع كلهم، بتهمة الارتهان. ولقد كان ذلك كذباً.
لا يمكن التغاضي ابداً، عمن اندس في ذلك الحراك الشعبي الرائع. نعم اندسوا، بسبب تبعيتهم الخارجية. بسبب ارتهانهم لدول معادية لحقوق الشعوب في هذا المشرق الموبوء سياسياً.. انما، لم يكن جائزاً ابداً، لأنه حكم ظالم، أن يُساق الجميع بعصا الاتهام.. ثم، وهنا مربط الخيل المتين: كل القوى الطائفية الحاكمة والمتحكمة، تعيش في لبنان، ولكنها تتكئ على “حلفاء” اقليميين ودوليين. الخارج مقيم في لبنان، عبر القوى الطائفية. من الخليج إلى فرنسا، إلى اميركا إلى إيران. وهذا الأمر، ليس جديداً. فلبنان اليوم، لم ينهِ كتابة لوحة الجلاء على نهر الكلب. فمن زمان، كان لبنان محطة اقامة للدول الغربية والاقليمية.
الحراك الاصيل، ظل نقياً جداً. لا يساوم. لا يتبع. لا يرتهن، ولا يحيد عن مبادئه في التغيير، ولكنه، بكل اسف، فضّل الخسارة، على الذمية السياسية.
مرة أخرى. فلنتأمل راهناً: بؤس لا مثيل له. مهانة واذلال كابوسيين. ضياع وزوغان. وهذا يطال حوالي 85 في المئة من اللبنانيين. حتى اتباع الطوائف مذلولون. مصابون بالدوران. لا يفلتون من المعاناة. انهم خائفون على يومهم. لا يفكرون بالمستقبل. قلة هجرت وهاجرت علها تجد متنفساً. هجرة متراصة. الفقراء بلغوا حافة الجوع. تبين لهم أن الخبز ديانة الفقراء والمحرومين، وليس الآيات ولا الصلوات ولا انواع وصنوف الادعية. يشعرون بعمق، انهم نُهبوا وسرقوا واغتصبوا وأهينوا. يعيشون بلا احلام. انهم في عراء. وحده الجحيم يحيط بهم. لا مكان لسماء او رجاء او وعد. التشاؤم العميق يقيدهم. يسألون فقط عن يومهم وغدهم. هل من دواء؟ هل من استشفاء؟ هل تهزمنا الليرة؟ هل يغتالنا الدولار؟ شعب تيبست عيون فقرائه. دموعهم يابسة. تخشى العيب..
بلد، اغتال شعبه. من لم يشعر بالظلم الشاهق؟ اظن، أن كل هؤلاء، يبحثون عن شتيمة مناسبة لهؤلاء القادة. حتى الآن استنفذ الناس كل انواع الشتائم، لكن بلا نتيجة. القادة، إن سمعوا، ولقد سمعوا، لكنهم طنشوا. الذين يبحثون عن حلول يومية، يحاولون الدخول إلى اليوم التالي من ثقب ضيق، عله يحمل حلاً او أملاً. عبث. هل الشعب يبحث عن امل؟ كلا ثم ألف كلا. الأمل، هو ألم المسحوقين والفقراء والمعوزين والجائعين والطافرين. لا أمل يصل أبداً. الألم دائم .. القلق بائن من تجاعيد الجباه. كل النوافذ مغلقة. ارضنا التي ننتمي اليها، خصبة جداً. بالخيانات والانتكاسات ومشاريع الفتنة. لا حقد يوازي احقاد الطوائفيين. الله يستر.
في معاناة الجوع والخوف منه، كلام كثير. امام الجوع، تشعر أنك وحيدٌ جداً. وضحية ظلم مزمن. تزوغ عيونك وترى ما لا يراه الآخرون. الجلجلة امامك. احمل صليبك وحدك. اياك أن ترجو القيامة.. انه عصر كالح واسود. لبنان نموذج حاسم. في هذه المتاهة، وعلى درجات هذه الجلجلة، نتساءل ما نفع الكلام؟ ما نفع الصلاة؟ ما نفع الرجاء؟ ما نفع الندم؟ غالبا، ما تشعر أنك امام العدم. وتحديداً، عندما يقف المسؤولون، بكافة اناقتهم، ويدلقون عليك فائضاً من الكلام والوعود والادعاءات، وهي لا تطعم لقمة، ولا تشي بحقيقة. يكفيهم، انهم ممتلئون بالدولارات، وأنت قد خسرت كل مدخراتك، وعافيتك، وراتبك، وعملك، وبيتك، وانت مهدد أن تعيش على القارعة.. عندما تتحول السماء إلى لوحة مكفهرة، تشعر أنك خارج العالم. وأنك وحيد، كالإنسان المعلق بلا طعام، فوق فوهة الهاوية. فم بلا طعام، فم بلا كلام. فم بلا قبلة وداع. تتحسس شفتيك، لشفتيك طعم الرماد. ثم تشعر أنك لا شيء ابداً. تجهل كل شيء. انت الموجود سابقاً، لم تعد موجوداً. ” فالموت يأتي بالعدوى”، والقلب ليل.
ترى أي معنى بعد ذلك لوطن؟ لدولة؟ لنظام؟ لمؤسسات؟ لبنيان مرصوص ومغلف، وأصحابه صادروا كل الحياة، وتركوا للناس، ما تبقى من الفتات. ترى، أي معنى للوطن؟ لقد انفجر وتبعثر. لا دينونة تدين، ولا عدالة تعدل. قادة لبنان، “معصومون عن الخطأ”، وان اخطأوا، يغفرون لبعضهم البعض، ويعودون عبر صفقة إلى ممارسة هوايتهم السياسية، لقاء فتاتٍ يرمى للاتباع، او من تبقى منهم.
الحياة، ليست هي نفسها دائماً. هل سيعتاد اللبنانيون على البؤس والفاقة وانعدام الأمل؟
لنعد إلى السياسة. لنترك جحيم المعاناة اللبنانية. لنسأل عن المسالك التي سيؤسسها لبنان الذي يتدحرج في هاويته؟ الخيارات كلها معقدة وملتبسة وتنبئ بالأسوأ.
امام لبنان راهناً، البناء على الفشل. أي اعتماد السياسات المتعثرة في مرحلة الانهيار. نحن لسنا على الحافة. الانهيار يسير فوق اجسادنا واحلامنا وما تبقى من اموالنا. من دلائل استمرار الانهيار، إن قادة “السياسات” في لبنان، مختلفون على كل شيء تقريبا. لا هم متفقون على سياسات لبنانية، في مسألة الديون، والاصلاحات، وما هو مطلوب منهم دوليا، ولا هم متفقون على الخيارات الاقليمية والدولية.
الحكومة محكومة. هذه ليست حكومة انقاذ ابداً. انها حكومة ارباب الأزمة، من موارنة، وسنة وشيعة ودروز. انها حكومة ترعاها مرجعيات دينية مبرمة. “ما في حدا أحسن من حدا”. الموارنة برعاية الغبطة. الشيعية السياسية ترعى المرجعية الشيعية وتأمرها فتأتمر. الدروز، قادرون على الاقامة في كل الاتجاهات. السنة، ينتظرون أن يتوب قادتهم امام السعودية، وقد لا تغفر ولا تعفو… لا أموال ستغدق على لبنان. الولايات المتحدة الاميركية تقبض ولا تدفع. فرنسا تنتظر. اوروبا تتريث. السعودية تمتنع. الامارات تبحث عن موقع قدم. قطر. إلى ما بعد الانتخابات، إيران، متخصصة بـ”حزب الله”. لا أموال دعم إذا. فيا أيها اللبناني عليك أن تعتاد على الشقاء. لم تعد قادراً على ملء الشوارع بالتظاهرات. هذا زمن ولى.
إذا كانت الحكومة محكومة بأرباب الطوائف، فمعنى ذلك، انها عاجزة عن لم الشمل. التباعد الخارجي والعداء المستدام، سيؤديان إلى العجز. معالجة الملفات فوق طاقتها، والاحداث المتتالية منذ 17 تشرين، ومن ثم انفجار او تفجير المرفأ، وبعده مجزرة الطيونة-عين الرمانة، لا قدرة ولا طاقة ولا ايمان ولا تصديق، لما يقوم به القضاء، ذلك أن القضاء رهن القيادات السياسية. القضاء لا يشبه امرأة قيصر ابداً. انه موزع على اركان السلطة وعلى الطوائف. مجلس الوزراء يتعطل. مجلس النواب يختصر المواعيد. الشارع ممزق. اهالي الضحايا باتوا أهليّن: الشيعة ضد البيطار ومع التحقيق بأحداث الطيونة. المسيحيون مع البيطار وضد من يتولى التحقيق بأحداث الطيونة.
كل ذلك واللبناني يتعكز على فقره. لا ينتظر فرجاً. يخشى أن توغل الطغمة فيتوسع الشرخ. يستعيد الماضي كله. يرى انه ماضٍ إلى حرب اهلية.. ان الحرب الاهلية مشروع، مع وقف التنفيذ.
(للمقالة تتمة: الخيارات المستحيلة)