منذ كان وزيرا للجيش وبعدها وزيرا للدفاع لاحظت اهتمامه القوي بضرورة أن يعيد العسكريون الأمريكيون التركيز على سباقات القمة بين الدول العظمى وخفض درجة اهتمامهم بالشرق الأوسط. تأكدت ملاحظتي عندما قرأت أن الوزير “مارك إسبر” عاد قبل أيام قليلة يكرر نصيحته التي صارت شهيرة في محاضرة ألقاها بجامعة جونز هوبكنز في واشنطن. يقول الوزير إن المطلوب الآن هو استعادة موقع الأولوية الأعظم في السياسة الخارجية الأمريكية لقضايا التنافس بين الأقطاب الدوليين.
كنت أسمع على امتداد سنوات أن الولايات المتحدة بدأت تفقد كثيرا من مخزون الخبرة الدبلوماسية التي سبق أن تراكمت خلال عقود الحرب الباردة. تفهمت المنطق وراء هذا التقويم للسياسة الخارجية الأمريكية في مراحلها الأخيرة، فالولايات المتحدة راحت بالفعل تهتم بقضايا إقليمية بعينها وتضع استراتجياتها العسكرية وفقا لنواحي هذا الاهتمام على حساب الاهتمام بالسباقات الجارية نحو القمة والقضايا المتصلة بالصعود إليها والهبوط منها. أولت أهمية فائقة لقضية الإرهاب فاحتل الشرق الأوسط، بسبب هذه القضية وحاجة أمريكا وقتذاك إلى النفط والتزامها صنع مستقبل لإسرائيل في الإقليم وفي العالم، احتل أولوية مطلقة رغم أنه لم يكن يستحقها بالضرورة. كادت مهمة القيادة المركزية الأمريكية لإفريقيا تقتصر على مكافحة الإرهاب ومهمة القيادة المركزية الأمريكية في أمريكا الجنوبية تقتصر على مكافحة زراعة وتصنيع المخدرات وتهريبها.
بالنسبة لنا نحن المتابعين للتطور في نظرية العلاقات الدولية وفي عقيدة السياسة الخارجية الأمريكية كان واضحا لنا ومحلا للشكوى والتحذير من جانبنا أن مستوى التنظير الأمريكي وبالتالي العالمي في هذا المجال الحيوي في علم السياسة خلال مرحلة اعتلاء أمريكا موقع القطب الأوحد ينحدر بالمقارنة بمستواه خلال مرحلة الحرب الباردة والصراع الدائر وقتذاك بين القطبين الأعظم. أستطيع الإقرار بأن الثمانينات من القرن الماضي كانت العقد الشاهد على بدء انحدار العبقرية الأمريكية التي صاغت مبادئ وقواعد النظام الدولي الجديد خلال الحرب العالمية الثانية استعدادا لمرحلة صراع حامي الوطيس بين القطبين ثم خلال مختلف مراحل هذا الصراع ومستوياته.
المشهد الدولي الراهن يراه رهيبا محللون غربيون عديدون. أراه شخصيا شديد الدلالة والأهمية. كنت دائما من المؤمنين بأن التحليل النظري القيم إنما لابد أن ينطلق من أسس واقعية وأن تكون أهدافه في النهاية واقعية المقصد والنوايا. وقع الخطأ عندما اطمأن العسكريون والسياسيون الأمريكيون في أعقاب إعلان نهاية الحرب الباردة إلى أن حال السلم الأمريكي العالمي (باكس أمريكانا) ربما يصبح في النهاية أمرا واقعا ومؤبدا. انتصرت، في نظرهم، انتصارا محققا قوى الديموقراطية والمبادئ اللبرالية والرأسمالية. خلت الساحة الدولية من منافس حقيقي أو محتمل للهيمنة الأمريكية. “سوف تمتد هيمنتنا لتغطي روسيا الجديدة حاضرا ومستقبلا وتشرف على نهضة في الصين نشارك في عائدها ونتحكم في مساراتها”. هكذا بدا العالم الخارجي للطبقة السياسية والعسكرية الأمريكية التي آلت إليها مسئولية قيادة العالم منفردة.
فجأة، وبالرغم من تحذيرات متفرقة على امتداد سنوات، استيقظت متأخرة طبقة الحكم في الولايات المتحدة على واقع لم تحسب حسابه، وهو أن تركيزها على قضايا إقليمية وبخاصة قضايا الشرق الأوسط، جاء على حساب هيمنتها العالمية وأسبقيتها على ما عداها. بمعنى آخر صارت القوة العسكرية والسياسية الأمريكية مرهونة لحساب قضايا صغيرة ومصالح دول متوسطة النفوذ والقوة. أدت هذه الانشغالات، وأقصد التركيز على قضايا فرعية ودول متوسطة، إلى أن ساحات عديدة في النظام الدولي بدأت تخرج من تحت مظلة الهيمنة الأمريكية أو بكلمات أخرى بدأ نزوح دول كانت تحت الهيمنة الأمريكية في اتجاه دول كبرى تتزاحم على الطريق الصاعدة نحو القمة الدولية. أقول فجأة لأننا نتذكر ردود فعل الطبقات المسيسة هنا في الشرق الأوسط عندما أعلن الرئيس باراك أوباما عن سياسة خارجية جديدة تهتم أقل بالشرق الأوسط وتهتم أكثر بشرق آسيا. حدث هذا عندما اكتشفت واشنطن حجم النفوذ الصيني المتزايد في منطقة جنوب شرق آسيا ومنطقة غرب الباسيفيكي.
في النهاية وجدت واشنطن نفسها أمام واقع جديد في شرق آسيا ناتج عن صعود متدرج السرعة والمستوى في غياب استعداد مناسب من الدولة الأقوى والأعظم في العالم. وجدت نفسها أيضا أمام واقع ثان في إفريقيا حيث احتلت الصين موقع الدائن الأعظم لدول القارة الإفريقية والشريك الثاني في الترتيب في تجارتها الخارجية، وصارت روسيا موئلا خارجيا قائما لفنزويلا ومحتملا لدول أخرى في القارة. لم تنتبه المراجع العسكرية والسياسية الأمريكية إلى أن انشغال أمريكا بقضية مكافحة الإرهاب في إفريقيا وانشغالها بقضية مكافحة جرائم تصدير المخدرات في أمريكا الجنوبية، انشغالها هنا وهناك وفي الشرق الأوسط ترك إفريقيا وأمريكا الجنوبية وشرق وجنوب آسيا ساحات مفتوحة لدولتين صاعدتين نحو القمة، دولتان تستعدان لمرحلة يحسمان فيها أمر حقهما في مشاطرة أمريكا هيمنتها على العالم.
تعلمنا في الكتب وبالممارسة خلال عقود مضت أن لأمريكا مصالح ثلاث رئيسة في الشرق الأوسط. كانت في حاجة لنفط يغطي العجز في إنتاجها المحلي وفي دول الجوار فكان لابد من أن تؤمن هذا القسط من احتياجاتها النفطية من دول في الشرق الأوسط وبخاصة دول الخليج. كانت أيضا عازمة بعزيمة لا يرقى إليها الشك على دعم دولة إسرائيل مهما كلفها الأمر. وبالفعل لم تبخل عليها بالمال أو الدبلوماسية أو المعلومات أو القوة العسكرية. هي متهمة الآن بأنها تسببت بعشوائية دبلوماسيتها وارتباك سياستها الخارجية خلال الفترة الماضية في تفريغ الساحة العربية في منطقة الشرق الأوسط من كل إمكانية لبناء نهضة حقيقية تهدد أو تنافس في يوم قادم أمن الدولة الإسرائيلية ونفوذها الإقليمي والدولي. أما المصلحة الثالثة فكانت في توفير الأمن اللازم لممرات الخليج المائية والحد من قدرات الثورة الإيرانية على التوسع.
اليوم نستطيع القول أن المصالح الثلاث لأمريكا في المنطقة العربية لم تعد تحتفظ بكل ما كان لها من شأن وقيمة. بقيت مهمة ولكن صارت محل جدل. لم تعد الولايات المتحدة عاجزة عن توفير كافة احتياجاتها من النفط من دون الاعتماد على النفوط العربية. إن بقيت لها مصلحة نفطية فستكون في استخدام حقول بعينها لتوفير التعويض المناسب عن وجود قوات وتسهيلات أمريكية في الشرق الأوسط، أو لحرمان خصوم أمريكا من الدول الكبرى من التزود بهذا النفط في المستقبل، أو مكافأة بعض الأمريكيين على دعمهم شخص الرئيس ترامب وسياساته. الحقول المستهدفة هي في الغالب حقول العراق وإن أمكن حقول شمال شرق سوريا. هنا لا يخفي ترامب وأعوانه الشره الزائد للاستحواذ على نصيب ثابت من نفط العراق.
بالنسبة لإسرائيل يبدو أن المسؤولين الأمريكيين، أو بعضهم على الأقل، بدأوا يقللون من شدة ارتباط أمريكا بالحالة الإسرائيلية في الشرق الأوسط بعد أن اتضح أن إسرائيل تسلك الآن مسالك مستقلة عن مسالك أمريكا. هي الآن تتعامل مباشرة مع قطبين وفدا إلى الشرق الأوسط وأقاما بالفعل. تتعامل مع روسيا وتحصل على كثير مما تريد وتنسق معها في معظم أمور دفاعاتها. لا أحد في واشنطون لا يعرف أن دخل الفرد في إسرائيل ارتفع إلى رقم يزيد عن 41000 دولار بينما كان في الثمانينات في حدود 6000، وأنها صارت قوة عسكرية لا يستهان بها. من ناحية أخرى، أقامت إسرائيل مع الصين علاقات تعاون في أخطر مجالات الإبداع التكنولوجي متجاوزة بها ما حققته أمريكا وأوروبا في بعضها. قيل لي أكثر من مرة أن واشنطن على وشك أن تطلق إسرائيل قوة دولية وإقليمية. اعترف أنني لم أفهم القصد أو النية من وراء تكرار هذه العبارة. خلاصة الأمر، لم تعد إسرائيل قضية شرق أوسطية تستحق ما كانت تحصل عليه من انشغال أمريكي.
أما في قضية الدفاع عن الخليج وحصر النفوذ الإيراني فمما لا شك فيه أن واشنطن استطاعت بنجاح نسبي ولكن متصاعدا إقناع الدول الأجنبية المستفيدة من نفط الخليج مثل الصين والهند واليابان تحمل مسؤولية تأمين ما يشترون ويبيعون في الخليج. وبالفعل صارت مياه مضايق الخليج مكتظة بأساطيل من شتى الأنواع. هنا أيضا ينحسر بالتدريج انشغال أمريكا بأمن الخليج، وإن استمرت مساعي إدارة الرئيس ترامب لتوسيع دائرة اهتمام حلف الأطلسي وحتى يتم ضم دول المنطقة إليه.
أصدق أن دبلوماسيين وعسكريين أمريكيين اكتشفوا أنهم غير مؤهلين بالقدر الكافي للتعامل مع قوتين أعظم ساعيتين للصعود إلى القمة الدولية. أصدق أيضا أن هذا الاكتشاف وقع في عهد الرئيس باراك أوباما وللحق يجب الاعتراف أن دونالد ترامب لم يهمله كما فعل مع غيره من انجازات سلفه، ولكنه تباطأ في الانسحاب ثم تخبط اعتقادا منه أن في العراق كنوزا لم تنهب بعد، وفي سوريا مستقبل لم يحدد بعد، وفي فلسطين حل لم يجرب بعد.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق