في البدء كانت عزيمة فرد هو طلال سلمان. فقد لفتتني منذ لقاءاتي الأولى به في مكتب صاحب مجلة »الحوادث« ورئيس تحريرها سليم اللوزي تلك الجدية التي كان يتلقى بها، وهو إذ ذاك في سن جريدته اليوم، المهمات الصحفية المعطاة له، فإذا أتمّها عرف في جلسة تالية كيف يدافع عنها ويشرح نهجها بحماسة وصدقية وكفاءة. لم يكن يعادل اندفاعه الصحفي والكتابي إلا تلك الرقابة الذاتية على جودة المادة التي يقدّم، فلا يتساهل مع نفسه بل هو مقتنع بما يكتب ومقتنع بكيفية ما يكتب، وهو يكتب مجتهدا معنيا بأن يكون ما كتب هذه المرة أفضل منه في المرة أو المرات السابقة أو أوسع أفقا وإحاطة أو حاملا جديدا ما في التفكير أو في الأداء.
وبين الصفات الكثيرة التي عرفتها فيه في تلك الفترة لا أعرف صفة كان لها الفضل على طلال سلمان مثل هذه الرقابة الذاتية الصارمة التي أخضع لها منذ ذلك الوقت إنتاجه وسلوكه والتي كان يصنع بها ومن خلالها شخصه وكفاءاته ومواهبه وخطه السياسي معا، وكأن ما يكتبه كان عامل دفع وتجديد وارتقاء في شخصه وتكوينه الفكري وليس في مهنته فقط.
وكان طلال سلمان كذلك قادرا على الانبهار بالأشخاص والأفكار، ولكن قادرا أيضا في الوقت ذاته على تحديد ما يجوز بل ما يجب أن ينبهر به من الأشخاص والأفكار.
ولم يكن في كل حال مستعدا لأن يخسر نفسه بالمعنى الخُلقي والروحي للكلمة لأنه، إذا خسر الإنسان نفسه فماذا يفيده أن يربح العالم.
كانت ولادة »السفير« نتيجة نضج في طلال سلمان وفي الظروف اللبنانية والعربية. فقد جاءت »السفير« لتوجد توازنا إعلاميا كان شبه مفقود في لبنان. فالصحافة اللبنانية لم تكن تعبّر عن كل لبنان ولا عن كل من في لبنان ولا عن كل ما في لبنان. وهذا ما كانت تشعر به النخب اللبنانية والعربية عامة، ولم يكن مَن حدّثهم طلال مِن هؤلاء، وهم قلة، بأقل حماسة منه لمشروع الجريدة اللبنانية العربية غير الطائفية ولا المذهبية. وكانت حماسة هؤلاء لصدور جريدة كحماسة نهرو الشاب للمدرسة الثانوية حين قال: »أعطني مدرسة ثانوية واحدة وأنا أصنع لك هنداً جديدة«.
كان المواطن اللبناني يعرف جيدا ما يقول عرب الخارج ولكن لا المواطن العربي ولا المواطن اللبناني نفسه كان يسمع في الصحف صوت عرب الداخل أي العرب اللبنانيين أو اللبنانيين العرب. وهكذا وُلدت »السفير« كما هو مكتوب تحت اسمها »جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان«.
احتشد فيها كتّاب عرب وفنانون ورسامون تساندوا مع الكتّاب والصحفيين والفنانين اللبنانيين في إصدار الجريدة. وكان طلال سلمان ناجحا في إعطاء جميع مَن يشارك في »السفير« الشعور بأنه يؤدي مهمة صحفية وأكثر من صحفية أيضا. ولم يكن طلال سلمان ليكون قادرا على ذلك لو أنه تساهل مع نفسه أو تكاسل أو تكبّر على نوع من العمل في الجريدة، ولكن انخراطه المهني والحياتي الكامل في عملية إنتاج الجريدة جعل دعوته للآخرين لاعتبار العمل فيها أكثر من مجرد عمل صحفي تكسب مصداقية واضحة، خصوصا في الأوقات التي كانت »السفير« فيها بحاجة ماسة إلى هذه الروح.
لا ينسى إنسان الكفاءة والحماسة والغزارة وروح التضحية التي كانت تعمل بها جريدة »السفير« حتى في الفترة التي كان فيها طلال سلمان مضطراً لأن لا يكون فيها. ففي تلك المرحلة أعطت جريدة »السفير« إحدى أهم شهاداتها على أنها جريدة حقيقية بالمعنى الكامل.
إن ما احتاجته »السفير« من ملكات وقدرات وكفاءات ومناهج عمل ومناقب في المراحل المختلفة من حياتها تحتاج لمثله في هذه الأيام التي تشكل الثورة الإعلامية أبرز صفاتها لأن التحدي كبير اليوم تماما كما كان التحدي كبيرا يوم كانت الصحف اللبنانية تصدر بينما المدافع تقصف.
ومن قمم لبنان، والصحف من قممه، يطل الإنسان على مساحات العالم العربي وآفاقه فيتساءل: ماذا يجب أن يكون من جديد في الإعلام اللبناني وفي السياسة اللبنانية وفي الاقتصاد اللبناني وفي الفكر اللبناني كي لا يخسر هذا العالم العربي تلك النكهة الخاصة الآتية من لبنان والتي لا تكتمل نهضة عربية بدونها؟
منح الصلح
السفير، 2631999