مأساة الرأسمالية بالنسبة للإنسانية هي أنها في اللحظة التي تبلغ أقصى توسعها وتسيطر على الكرة الأرضية وسكانها، تصبح خطراً عليهما، وعلى نفسها بالطبع. الخطر متعدد الأوجه. وهو ينبع من عوامل داخلية أو تناقضات داخلية في الرأسمالية ذاتها.
الخطر الأول هو انفصال المال عن الاقتصاد الحقيقي. فينتج المال نفسه عبر تبادل الأسهم في البورصات، أي الاستثمار في المال ينتج المال. صاحب المال لا يحتاج أن ينتج شيئا، أي سلعة مادية، كي يحقق ربحا وتزداد ثروته. الثروة لم تعد نتاج عمل الناس؛ لا تحتاج الى ناس. تشتغل عنهم. عدد قليل من أصحاب التريلليونات، مئات منها، ويعدون بالآلاف يملكون ما يعادل أو يفوق ما يملك معظم السكان أو بقيتهم. النتيجة غنى مطلق لعدد قليل مقابل فقر مطلق، بالأحرى مدقع، لأكثرية البشرية. هذا في وقت تتقلص الطبقة الوسطى حتى تكاد تتلاشى. أصحاب الثروات المطلقة يحتاجون الى محاسبين، ولا يحتاجون الى مستهلكين. الطبقة العليا من الرأسماليين أصحاب التريلليونات لا يحتاجون الى بشر. البشرية لم تعد تلزم. في الأنظمة الاجتماعية السابقة، حتى في مراحل الرأسمالية السابقة، كان المنتجون الحقيقيون، معظم البشر، من بروليتاريا وفلاحين وأجراء الخدمات ينتجون ويستهلكون. كان جزء من إنتاجهم يقتطع بشكل القيمة الزائدة أي أرباح وفوائد وريوع، وهي كلها في الحقيقة ريوع. لتتجمع هذه بيد الطبقة العليا وتشكل ثرواتها. في زمن المال ينتج المال، كل الطبقات الدنيا والمتوسطة لها دورتها الافتصادية الخاصة، المنفصلة عن عالم المال. هؤلاء الناس من الطبقات الدنيا هم بمثابة مشاهدين في مسرح كبير حيث تعرض صور وأخبار طلاق المشاهير. نظام الإنتاج والاستهلاك هو للعامة. نظام المال هو للخاصة. كأننا نقرأ في كتب الفلسفة القديمة حيث العقل للخاصة والدين للعامة. بعد أن أوجد المشاهير تجمعاتهم السكنية المسوّرة. هم الآن يقتحمون الفضاء، ربما للعيش فيه. بدأت رحلات الفضاء الممولة تمويلا خاصا لا من الدولة. بقية البشرية يكفيهم قمصان التي شيرت والبلوجينز والمنتجات البلاستيكية للثياب الدافئة وربما للبناء وغيره. منتجات القطن والصوف والخشب والحديد، الخ…، صارت غالية الثمن وبعيدة المنال. غلب على الغذاء منتجات صالحة للوجبات السريعة، التي ما عاد اللحم فيها مادة أساسية، بل حل مكانه لحم مصنّع من نبات السويا.
الخطر الثاني هو البيئي. تهدد ضرورات الربح السريع التوازنات في البيئة الجغرافية والحيوانية والنباتية والمناخية. يتغيّر وجه الأرض، وباطنها، وهواؤها، وحرارتها، ومناخها عامة. التغيّر بطيء لكن تراكمات السنوات الطويلة من “نجاح” الرأسمالية يجعل الطبيعة، بحرا وبرا، ليست كما كنا نعرفها. إفرازات أوكسيد الكربون، وأثر ذلك على المناخ، وإزالة الكثير من الغابات التي تشكّل عاملا مهما في امتصاص الغازات الكاربونية، وارتفاع الحرارة على الكرة الأرضية، وذوبان ثلوج المحيطين الجنوبي والشمالي، والاختلال المناخي الذي يسبب الكثير من الأعاصير والفيضانات، ونفوق عدد كبير من فصائل الحيوانات والنباتات، وضرب التوازنات الي كانت تحدثها، الخ…، وكل ذلك يحدث بقساوة أكثر في البلدان التي كانت عالما ثالثاً. رغم أن الغرب يتفاوت في درجة اعتراف حكوماته، إلا أن تطبيق اجراءات ضد الشركات التي تنتهك الطبيعة هو أكثر صرامة في الغرب، مما يعني أنه حتى الدول الغربية الأقل تطبيقا للاجراءات تعترف ضمنا بالتغيير المناخي. لكن دافع الربح أقوى. وفي النهاية هناك إقرار بأن الحياة البشرية في الغرب أكثر قيمة مما في عداه. إن انتهاك الطبيعة والبيئة في بلدان العالم الثالث يحدث بوتيرة أسرع لأن للرأسمالية حرية أكبر في ذلك بسبب ضعف أو إضعاف حكومات هذه البلدان.
على العموم، ما دامت كلفة تدمير البيئة والمناخ لا تضاف الى كلفة الإنتاج، فإن هذا التدمير سوف يتوسّع أفقياً وعموديا، لدرجة تشكيل خطر حقيقي، بدأنا نشعر به. الجدير ذكره، أن الإنسان جزء من مكونات الطبيعة، ومصيره مرتبط بها، وصحته مرتبطة بصحتها وتوازناتها. عدم احترام الرأسمالية للبيئة معناه عدم احترامها أيضا للحياة البشرية. تشعر الطبقات الدنيا بذلك، لكن قدرتها على المقاومة في الغرب هي أكثر مما في العالم الثالث. كلما انخفضت قدرة المجتمعات على المقاومة كلما ازداد انتهاك البيئة. انخفاض قدرة المجتمعات على المقاومة، بما في ذلك مقاومة السلطة، يعني ازدياد الاستبداد وازدياد حدته وقسوته. فالاستبداد أداة من أدوات انتهاك البيئة والانسان.
الخطر الثالث هو الأسلحة التي يصنعها البشر، خاصة من لديه القدرة على ذلك، أي المجتمعات الرأسمالية. السلاح القديم من السيف والقوس والرمح، حتى المنجنيق، وحتى البارود، كان يوجه ضد أفراد أو جماعات صغيرة. أعمال القتل الجماعية، خاصة عند احتلال مدن أو قرى، كانت تقترف بيد أفراد وإن كثروا. كانت تباد جماعات بكاملها في الحرب أو بعدها، لكنها كانت تتطلّب عمل أفراد من المهاجمين أو المحتلين. كانت الحروب تجري في أماكن معزولة. كان الخراب الأكبر يحصل عند مرور الجيوش التي تمر كالجراد وتأكل الأخضر واليابس، وتبيد المزروعات في طريقها وما حولها.
مع تقدم الرأسمالية في القرن العشرين، ومنذ الحرب العالمية الأولى، تطورت أنواع من أسلحة الدمار الشامل، التي كانت كيماوية في الحرب العالمية الأولى، ثم أضيفت واستعملت الأسلحة النووية في الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت الحاضر الحرب البيولوجية (الجرثومية). الأوبئة قديمة. كانت تحدث كل بضعة سنوات في مواضع معينة على الكرة الأرضية. أشهرها طاعون 1348 الذي عم البشرية وأباد ثلثها أو ربعها، وكذلك الانفلونزا الأسيوية، وتسمى الإسبانية، في أواخر الحرب العالمية الأولى وما بعدها، والتي كان ضحاياها من ثمانية عشر مليونا الى خمسين مليونا من الناس. الأسلحة الجرثومية الجديدة تصنّع في مختبرات. لا ندري إذا كان الكورونا أُطلق عمدا من مختبر في الصين أو تسرّب عن غير عمد. الشكوك كثيرة ومتناقضة. كذلك الاتهامات والاتهامات المتبادلة بين الدول والمناطق ومنظمات الدول. لكنها غير موجهة من موقع الى موقع بل هي تنتشر تلقائيا بالعدوى. انتشارها سريع وعدواها سريعة وتحولها سريع. المتحورات الجديدة أسرع من سابقاتها. أنتجتها شركات أدوية ذات مختبرات. تنتج اللقاحات ضدها شركات أدوية. تحاول بعض الدول الكبرى عن طريق شركات مملوكة لها إنتاج اللقاحات. بعضها مشكوك في فعاليته، أو هكذا يقال. العلم بخصائصها، إذا كان متوفرا، تحتفظ به نخب الخبراء في الشركات، بأوامر منها، كأسرار مهنة. نتائجها المهلكة واسعة الانتشار في كل نواحي الكرة الأرضية. الهلع الذي أصاب ويصيب البشرية ربما كان أوسع بكثير مما يعلن عنه. وقد تعودت الحكومات، خاصة في بلدان العالم الثالث، أن لا تذيع كامل أرقام الإصابات المتحققة. الشكوك حول فظاعتها ما زال يهجس بها الكثير من المختصين العارفين. على كل الحال، كثيرون من المتدينين من جميع الأديان لا يأبهون لها ولا لمواجهتها إيمانا بأنه لا يصيبكم إلا ما كتب الله لكم. كل شيء يحدث بقرار إلهي. فهم يرفضون أخذ اللقاح، مع الشعور لدى قطاع واسع من البشرية أن هناك مؤامرة ما في انتشار الوباء وفي اللقاحات. حى الآن لا أحد يتحدث عن دواء ضد جرثومة الوباء.
هذا السلاح البيولوجي الذي أنتجته الرأسمالية يمكن على الأرجح أن لا يكون موجها ضد فريق بعينه، انما هو ضد البشرية جمعاء. هو سلاح ضد البشرية. غير مؤكد كيف كانت بداية انتشاره إلا أنه بدأ في الصين. ينتشر في كل القارات. غير مسيطر عليه. تظهر منه متحورات جديدة. نسبة الوفيات للإصابات منخفضة. الهلع كبير. ربما يفوق حجم الخطر. ما زالت السلطات تعتبر أن أهم الوسائل الحمائية ضده، بل الوحيدة، هي الكمامة (سد البوز) التباعد الاجتماعي (فرط العلاقات الاجتماعية) وغسل اليدين (لتطهير الجسد وربما النفس مما يشوبها).
واضح أن ما يقود النظام الرأسمالي العالمي هو الوباء. الفيروس يقود البشرية. الكرامة البشرية مهدورة بالطبع. لكن الرأسمالية الدولية أو بعضها على الأقل يجني أرباحا طائلة من وراء ذلك، ومن وراء التجارة بالهلع.
علينا التذكّر أن النظام الرأسمالي المالي لا علاقة له بالاقتصاد الحقيقي الذي يتراجع بنسب كبيرة سنويا، لكن الاقتصاد المالي (البورصات) يتصاعد. الثروات الكبرى التريلليونية تزداد بالمئات أو الآلاف سنويا وأحجامها تزداد. تخفيف الاختلاط، وهو الاحتياط الصحي الذي تفرضه الكورونا، يشجّع على مزيد من استعمال الهواتف الجوالة والشراء أونلاين والتعلّم أونلاين في وقت تبدع شركات التكنولوجيا الحديثة في الرحلات الفضائية لتبشرنا بأن مرحلة جديدة من الإنسانية قد بدأت. تتناسب وحشة تمضية الوقت في وحشة المركبة الفضائية مع التباعد الاجتماعي والكمامة والطهارة الصحية التي تفرضها الكورونا. رحلات فضائية يمولها القطاع الخاص تبشرنا أن حياة الطبقة العليا باتت في مجال آخر غير مجال البشر العاديين من الطبقات الوسطى والأدنى. اقتصاد الطبقة العليا أيضا مختلف. تتباهى الطبقة العليا، ومن حولها، باختلافها وتتعالى على الحياة البشرية. الكورونا التي تصيب العالم لا تصيبهم؛ الوباء يزيدهم ثروات. عالم الحياة اليومية تكفي أصحابه توزيعات مالية دورية للتخفيف من حدة البطالة والشعور باللالزوم.
الرأسمالية المالية العليا والعالمية لا تهمها بشرية، ولا تعنيها في تكديس الثروات. لها دول ذات موازنات وبرامج مساعدات للذين لا لزوم لهم من الطبقات الفقيرة التي لا يجب أن تبقى وتستمر إلا لأسباب سياسية، حيث الأخلاق معدومة. لا لزوم للأخلاق في هذا العالم. الأخلاق علاقات بين البشر المعرضين للانقراض. السياسة في غير محلها، يتغاضون عنها. المساعدات والأعمال الخيرية تزدهر.
عالم جديد تخلقه الرأسمالية في تطورها وتناقضاتها. تستفيد من كل ذلك كي تشهر نجاحات غير مسبوقة على حساب البشرية. في الوقت عينه يزداد عجز الطبقات الدنيا عن المقاومة. تزدهر عالميا المقاومة الدينية. لم يبق للطبقات الدنيا إلا التعلّق أكثر وأكثر بالله، عله ينقذهم. حتى الآن لا يبدو أن السماء تكترث للفقراء. هؤلاء متروكون للمساعدات الخيرية ومنية الأغنياء. ازدياد طبع العملة الورقية يساهم الى حد كبير في ازدياد التضخّم وغلاء الأسعار، وازدياد الفقراء فقرا والأغنياء غنى.
في بداية القرن العشرين كانوا يكتبون عن عالم جديد شجاع. الآن لا يمكن الكتابة إلا عن عالم جديد مجنون. جنون البشرية ضد نفسها. جنون تثيره رأسمالية صارت تشكّل ضمير الإنسان. لم تعد الرأسمالية نظاما اجتماعيا واحدا من تطوّر اجتماعي. صارت، خاصة في شكلها المالي الحالي، هي روح الإنسانية المعذّبة المجنونة التي لا حدود لقدرتها على التدمير بمختلف أسلحتها المالية والبيئية والجرثومية. لم تعد المسألة مشكلة تغيير النظام الاجتماعي كما كان عليه النضال الاشتراكي في القرنين التاسع عشر والعشرين. هي مشكلة بقاء البشرية في القرن الواحد والعشرين. انهيار الحضارة أمر وارد. ممكن الحصول. ربما كان الاحتمال الأرجح. كثرت الكتابات العلمية حول هذا الموضوع في العقود الثلاثة الأخيرة. لدى الرأسمالية وسائل إعلامية (وتواصل اجتماعي) هائلة لتدجين البشر، الفقراء والأغنياء. مهمتها الأساسية التبشير بنهاية الايديولوجيا واليوتوبيا. نهاية الحلم البشري بمستقبل أفضل. التقدم التكنولوجي لم يعد يعني التقدم الإنساني. صار التقدم، في بعض معانيه، يحمل إمكانية الفناء البشري. هو ليس فناء الصوفية في الله، بل هو الموت لجزء كبير من البشرية. أسلحة الرأسمالية الثلاث، خاصة الجرثومية، كفيلة بذلك.
نعيش في عالم تفهمه الرأسمالية أكثر مما يفهمه المناوؤون لها. فهم هذا العالم هو الأولوية الأولى لمن يزعم النضال ضد النظام الرأسمالية. يبدأ الفهم باعتبار الرأسمالية ليست هي الطبع الوحيد للإنسان. لها بداية، منذ خمسة قرون، وممكن أن يكون لها نهاية. فهم العالم بنظامه الجائر بداية لوضع البشرية على قدميها.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق